هذا كتاب فريد ومتميز في مسيرة الأدب الروسي وتاريخه , اذ لم يؤلف الأدباء الروس الكبار كتبا مستقلة عن بعضهم البعض , بل ان البعض منهم قد كتبوا – ليس الا - مقالات مختلفة ومتفرقة هنا وهناك او رسائل الى الأصدقاء تضمنت ذكريات وانطباعات ومل
هذا كتاب فريد ومتميز في مسيرة الأدب الروسي وتاريخه , اذ لم يؤلف الأدباء الروس الكبار كتبا مستقلة عن بعضهم البعض , بل ان البعض منهم قد كتبوا – ليس الا - مقالات مختلفة ومتفرقة هنا وهناك او رسائل الى الأصدقاء تضمنت ذكريات وانطباعات وملاحظات وأقوال... الخ عن بعضهم فقط , وتوجد كلمات وتصريحات سجلها صحفيون او مؤرخون او نقاد أدب حول هذا وذاك من الأدباء الروس , اما ايفان الكسييفتش بونين ( 1870- 1953 ) , وهو أحد كبار الأدباء الروس ضمن سلسلة الأسماء الكبرى في هذا الأدب و التي تبدأ ببوشكين في القرن التاسع عشر , فقد أصدر كتابا خاصا حول تشيخوف و بعنوان واضح ودقيق وصريح وهو – ( عن تشيخوف ) (( و يمكن ترجمة العنوان الى العربية ايضا – ( حول تشيخوف))
وقد كتب بونين هذا الكتاب في فرنسا , حيث هاجر واستقر هناك بعد ثورة اكتوبر 1917 في روسيا , وحيث توفي وتم دفنه هناك ايضا عام 1953 , ولكن الكتاب المذكور صدر عام 1955 في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية , اي انه آخر كتاب لبونين , وصدر بعد سنتين من وفاته , وهذا يضفي على هذا الكتاب الجميل والمتميز في تاريخ الأدب الروسي أهمية استثنائية جدا بالطبع , وقد أشارت دار النشر الروسية في نيويورك التي أصدرت هذا الكتاب الى ذلك في نهايته , حيث كتبت انها تنشر مخطوطة هذا الكتاب كما استلمتها من ورثة بونين دون أي تعديل او حتى أي تصحيح احتراما وتقديرا للكاتب الروسي الشهير ايفان بونين وذكراه ومكانته في تاريخ الأدب الروسي على الرغم من وجود ضرورة لذلك بشأن بعض النقاط , والتي أشارت دار النشر تلك الى ان بونين – في حالة لو كان باستطاعته مراجعة الكتاب هذا كان من المؤكد ان يقوم بتصحيحها , ولهذا يطلقون على هذا الكتاب ايضا في مصادر النقد الأدبي الروسي وتاريخ الأدب الروسي ومسيرته تسمية – ( مخطوطة غير منتهية , او غير نهائية ) وهذا شيء صحيح ودقيق فعلا , وذلك لان وفاة بونين في باريس عام 1953 قد حالت – مع الأسف – من ان يضع مؤلف الكتاب المذكور – اي بونين - تلك اللمسات الأخيرة والنهائية لهذا الكتاب وان يقوم بتصحيحه نهائيا قبل طباعته وإصداره عام 1955 في نيويورك من قبل دار النشر الروسية هناك .
لقد تم تعارف بونين بتشيخوف في الإمبراطورية الروسية آنذاك عام 1895 , واصبحا بعدئذ قريبين في علاقاتهما وصداقتهما مع بعض في بداية عام 1900 , وهناك (14) رسالة من تشيخوف الى بونين في أرشيف بونين , و(17) رسالة من بونين الى تشيخوف في أرشيف تشيخوف , وصدرت مقالة حول ذكريات بونين عن تشيخوف في روسيا لاول مرة عام 1905 ( اي بعد سنة واحدة من وفاة تشيخوف ) في كتاب يضم مجموعة مقالات بعنوان – ( في ذكرى تشيخوف ), وأعيد طبع هذا الكتاب في عام 1906 , وقد دخلت تلك المقالة عن تشيخوف في مؤلفات بونين الكاملة , و التي صدرت عام 1915 في روسيا , ثم ظهرت مرة اخرى ( منقحة ومزيدة ) عام 1935 في مؤلفات بونين الكاملة و التي صدرت في برلين بالمانيا , ثم في كتابه الموسوم – ( ذكريات ) الذي صدر في باريس بفرنسا عام 1950 , ثم في الكتاب الذي نحن بصدد عرضه هنا وهو – ( عن تشيخوف ) الذي صدر بعد وفاة بونين كما ذكرنا أعلاه.
مقدمة الكتاب كتبتها أرملة بونين السيدة ف.ن. بونينا , والتي أشارت الى ان الوضع الصحي لبونين عام 1952 لم يسمح له ان ينهض من السرير , ولكنه عندما كان يقدر ان ينهض ويتحرك , فانه يعود رأسا الى كتبه ونشاطاته الأدبية ومنها بالذات كتابه الذي كان يعدٌه عن تشيخوف , والتي كان يسميها بشكل عام ودقيق وساخر ايضا – ( طبعات ما بعد الموت ) . لقد اطلع بونين – حسب مقدمة أرملته للكتاب - با لذات في تلك الفترة على كتاب بعنوان – ( رسائل تشيخوف ) والذي كتب فيه تشيخوف عن بونين ونتاجاته وأفكاره لأصدقائه وأقاربه , وتأثر بونين جدا بآراء تشيخوف الإيجابية والموضوعية عنه في تلك الرسائل , ثم قرأ كتابا صدر آنذاك في موسكو بعنوان – (تشيخوف في ذكريات معاصريه ) (انظر مقالتنا حول هذا الكتاب وبنفس العنوان ) وأعجبته مقالة السيدة أفيلوفا في ذلك الكتاب عن تشيخوف والتي كانت بعنوان – ( تشيخوف في حياتي ) ( صدرت هذه المقالة بالعربية في بغداد بترجمة كامران قره داغي , انظر مقالتنا بعنوان كامران قره داغي والأدب الروسي في العراق ), وهكذا قرر ان يكتب عن حياة هذه المرأة وارتباطها بتشيخوف , ثم قرأ مقالة الناقد الأدبي والفيلسوف الروسي المعروف في بداية القرن العشرين شيستوف بعنوان – ( إبداع من لا شيء ) , وهي مقالة مشهورة جدا في تاريخ النقد الأدبي الروسي و أثارت ضجة كبيرة في حينها , والتي كتبها شيستوف ونشرها بعد وفاة تشيخوف , ثم بدأ بونين يطلب من زوجته ان تقرأ له كتبا اخرى بما فيها بعض نتاجات تشيخوف والتي حددها بونين نفسه او أشار اليها بقلمه عندما طالعها في حينه . لقد أشارت أرملته الى كل هذه النقاط العديدة وتحدثت عنها - وبالتفصيل الدقيق - في تلك المقدمة للكتاب المذكور والتي كتبتها بتاريخ 28/2/1955 كما أشارت في نهايتها, ويمكن القول - وبلا أدنى شك - ان هذه المقدمة تعد وثيقة مهمة جدا من وثائق تاريخ الأدب الروسي ومسيرته.
الجزء الأول في الكتاب يتكون من معلومات وجيزة عن سيرة تشيخوف , والتي ذكرها لبونين شخصيا , ويتحدث الكاتب حتى كيف حصل على نسخة من شهادة ميلاد تشيخوف , ثم ينتقل الى تاريخ تعارفهما وبداية صداقتهما , ويتوقف عند اللقاء في يالطا مع تشيخوف وتولستوي وحديثهم عن الفن , وينتقل الى الحديث عن السيدة أفيلوفا ودورها في حياة تشيخوف وكيف تعارف معها هو شخصيا وعن تلك اللقاءات معها في موسكو عام 1915 وعام 1917 ومراسلاته معها في أوائل سنوات الهجرة في العشرينات ثم انقطاع تلك المراسلات , ثم يتكلم عن الكلمة التي ألقاها في مسرح موسكو الفني عن تشيخوف بمناسبة مرور خمسين سنة على ميلاده , اي في عام 1910 , وقد تحدث بونين عن كل ذلك بأسلوب طريف وجديد ومبتكر , اذ انه وضع كل هذه الذكريات في نقاط منفصلة عن بعض , ما أعطاه الحرية المطلقة بالانتقال من موضوع الى آخر دون الضرورة لربط تلك المواضيع المختلفة في بوتقة واحدة او نص واحد متكامل , وهو اسلوب رائع وسلس ويشدّ القارئ تماما , اذ ان هذا الانتقال السريع بين تلك النقاط التي يبدو وكأنها منفصلة عن بعض رغم انها تدور حول تشيخوف وشخصيته وتلك الآراء حول إبداعه , يجدد انتباه القارئ الى تلك النصوص دائما , وقد جاءت تلك المقاطع – بعض الاحيان – في جملة واحدة او جملتين لا أكثر , وأضرب هنا مثلا على ذلك ليس الا – ( سألت والدة تشيخوف واخته – هل بكى تشيخوف يوما – ما ؟ , أجابتا- كلا , ابدا وطوال حياته . ويعلق بونين على ذلك بكلمة واحدة فقط وهي – رائع ) أو هناك قول لتشيخوف يكتبه بونين بايجاز دقيق ومحدد – ( العبقرية – هي معرفة الحياة , العبقرية – هي الشجاعة ) , وهناك الكثير من تلك الأمثلة المشابهة لذلك . اما الجزء الثاني من ذلك الكتاب فتتضمن ملاحظات من دفاتر مذكرات بونين لعام 1914 ثم مقاطع مطولة من رسائل تشيخوف الى أدباء كثيرين وملاحظاته حول نتاجاتهم الأدبية , وهم أدباء روس كبار مثل غوركي وكوبرين وفيريسايف وغيرهم , مع تعليقات ومداخلات من بونين نفسه طبعا بشأن تلك الملاحظات .
لقد رسم بونين في كتابه هذا صورة قلمية رائعة لتشيخوف , صورة يمكن ان تكون واحدة من أجمل لوحات المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي اذا امكن لنا التعبير هكذا , اذ انه رسم تلك الصورة لتشيخوف من عدة مواقع و زوايا مختلفة تمام الاختلاف وحسب الضياء الذي يسقط عليها , وأعطى للقارئ حرية بلورة السمات الكاملة لتلك اللوحة في مسيرة النقد الأدبي طبعا , اي انه رسم لوحة تشيخوف الفنية بكل ما يعني ذلك من معان و احتمالات واجتهادات وحسب حزمة الضوء التي تسقط عليها كما في قوانين المدرسة الانطباعية في الفن التشيكيلي تماما. كم أتمنى ان يمتلك القارئ العربي ترجمة كاملة لهذا الكتاب المهم جدا حول تشيخوف – هذا الانسان الرائع والكاتب الجميل والرشيق والعميق فعلا قلبا وقالبا!