TOP

جريدة المدى > عام > عبدالأمير علوان.. حزن رحيل مدجج بالألوان

عبدالأمير علوان.. حزن رحيل مدجج بالألوان

نشر في: 8 نوفمبر, 2014: 09:01 م

كيف يمكن أستعارة شكل الموت ولونه ورائحته،لنجاري به نبض روح الفن شكلا ومضمونا،محلقا زاهيا بنسيمات عطر فاغم ونفحات ألوان ذائبة في ينابيع حياة لم تدم طويلا...بل،ربما تمناها -أن لم يكن أرادها(عبد الأمير علوان)- أن تكون قصيرة،هكذا بعمر حياة وردة الجوري ؟!

كيف يمكن أستعارة شكل الموت ولونه ورائحته،لنجاري به نبض روح الفن شكلا ومضمونا،محلقا زاهيا بنسيمات عطر فاغم ونفحات ألوان ذائبة في ينابيع حياة لم تدم طويلا...بل،ربما تمناها -أن لم يكن أرادها(عبد الأمير علوان)- أن تكون قصيرة،هكذا بعمر حياة وردة الجوري ؟!!
رحل (عبد الأمير علوان- تولد كربلاء/1955)في الرابع من تشرين ثاني/2014 خارج رحم بلده،بعد حيرة معاناة غربة أمتدت قرابة عقد من الزمن مابين عمان-الأردن والولايات المتحدة،ووطأة مرض عضال،طوى صفحة حياة هذا الفنان الذي أغرم بحبه-حد الهيام-حياة الطبيعة وتوثيق بعض تفاصيل الحياة المحلية واليومية ورسم وجوه(بورتريهات)لنساء أحبهن (أمير)بهاجس حب وولع أفلاطوني النزعة والمرمى وآخريات هن قريباته في البيت وعش الزوجية حيا،فضلا عن بهاء تجليات بحثه الإنساني وتنويعات واقعيته الراعفة بعذوبة وسحر ألوانه المرهفة والدافئة حتى حين يصور جوانب ومقاطع من الأحداث والظروف الصعبة والقاسية التي مر بها العراق،من خلال أتقان لغة تسجيلية مدهشة،أتسمت بوضوح وزهد مصحوب بنزعة ترف خاص في التعبير عن مكامن أحزانه،وأحزان عالمه الذي يحيا فيه،فيما تدانت تصوراته وتعمقت بوهج قدرات أسلوبه المتماهي مع نقاء ذاته المتمعة بطراوة حدس وقوة إحساس حان،رائق ومؤثر،يعي- جيدا- سبل وكيفيات إشتغاله على الموضوعات المستقاة من واقعه بنسق خلاصات روح تعبيرية جعلت منه رقما ناصعا ومضيئا،بل،صعبا في مجال رصد خصوصية عراقية وعربية وعالمية توسدت تجربة(علوان) الذي نال- قبل رحيله- جائزة (أكيودي) للأداب والفن والسلام مناصفة مع الفنان المصري(رزاق عكاشة)،كما نال غير من جوائز وتقديرات تباهت بصدق واصالة وعمق تجربته الثرة والثرية في مسارات ومثابات الفن التشكيلي المعاصر في العراق.
يحيي الإهتمام بما أعطى(عبد الأمير علوان) ثقة إخلاص نابع من زواخر ما أنجز منذ إعلانه عن نفسه رساما مترهبنا(رهبان) بالرسم المائي و بهضم لغة التعبير بالماء،وحتى ساعات إخلاصه للمرأة والمكان،ومتعة التلاقي ما بين التأمل والتفكير وإعادة إعطاء مهلة التملي بمعنى؛(أن تفكر... هو ان تكون أثنين)،هنا يتناوب الحرص عندنا كمشاهدين ومحبين ونقاد فن،لكي نتفادى أحتمال إعادة أي صدى أو تكرار ورد في نقد ورصد ومتابعة هذا الفنان-الإنسان الكبير في كتابات سابقة وإستدلالات قطعية وردت في تقيمات كبار المثقفين والمبدعين من طراز الراحل الكبير(جبرا أبراهيم جبرا) الذي أشاد بتجربة(عبدالأمير علون)في وقت مبكر من عمر نبوغ موهبته في الرسم المائي والزيتي تعليقا على إنثيالات عرض مبهر له في بداية ثمانينيات القرن الماضي،هنا نحاول التحليق والطواف بجناح آخر فوق مرتسمات هذا الفنان الذي يعد من أكثر التشكيليين نتاجا ورواجا وأقلهم كلاما وحضورا في ميادين الإدعاء والترويج ومقايضة غاية الرسم المثلى لديه،بمباهج أخرى،حيث بقي في نأي عن مثل هذه المقايضات اللامجدية من وجهة نظره وطبيعة نشأته الأجتماعية والعائلية وطبيعة رؤيته الطيعة للعالم والجو المحيط به ،وربما هذا ما أعطاه سحر وخفة تناغماته الواثقة وتوغلات محاولاته في بنية تأريخ الرسم الواقعي والتعبيري في العراق،وإثبات تفوق غاياته وجوهر تطلعاته ورقة وعذوبة إحساسه الذي يوهمنا كما لو أنه يرسم بريشة طائر،لا بفرشاة رسم.
تسجل الانطباعات الفكرية والفنية،والنقدية- بمعنى أشمل- مفهومية وسعة فهم جمالي خالص لقيمة ما كان يعتمل في دواخله ومصنفات موهبته وبراءة ما يطفح من ينابيعها على ذلك النحو الراسخ من الصفاء والدعة والهدوء الذي يلخص وصفنا له،ساعة يسبل عينيه بنصف إغماضة تتيح له تأمل وفحص المشهد أو الموضوع أو الوجه الذي رسمه غارقا في لجج من حلم ومتاهة صحو تناظر ثقة فهمه لطريقة وأسلوب ذلك الأثر الناتج من عمليات ما يسمى ب(التداعي الحر)،أي المنطقة التي يقف عندها الفرد ما بين اليقظة والنوم معا،من هنا... من مسارب هذا التتابع النفسي تحلق كائنات وأشياء(عبدالأمير) صوب إمكانية رؤية ما يسكن بعد أو ماوراء لحظاته الهاربة،وتذكارات الحزينة بسرية فرح غامض،يفاوض فيه من وطأة الزمن الذي يلاحقه بالفرار طوعا أو البكاء عليه،ثمة معادلة صعبة تتبناها لوحاته تشي بهذا القدر من تداخل الفرح والحزن حد الإندغام،وهو يحاول رسم الحياة بفائض رحلتها مع الآخرين ومن أناس(هم)غير(هو)أو(نحن) أصدقائه وعشاق رسوماته بشهادة من يرى في نسب عدد الموتى أكثر بكثير من نسب عدد الأحياء ممن هم على قيد الحياة.
تجبرني حلاوة الذكريات ومرها،أن نمر على تأوهات تلك الأيام التي عشناها معا في مشغله الصغير في عمارة(فخر الدين)قرب ساحة الفردوس بقلب بغدادمنذ منتصف التسعينيات وما تلاها حتى قرار رحيله بالسفر الى عمان أملا بالهجرة الى أبعد،كانت دندنات آلة العود التي أصر(عبدالأمير)تعلم العزف عليها،والتي لم تتعد حدود ومسافات مقاطع بسيطة من أغاني(محمد عبدالوهاب)و(عباس جميل)و(عبد الحليم حافظ) وما تجود به علينا ذواكرنا من أغنيات تسبق كلماتها عزف(عود...عبدالأمير) البطيء جراء عدم إتقانه لمقومات العزف،وغيرها من خيوط ذكرى ومواقف إنسانية ونبيلة جمعتنا ذات صداقة،لم أتدن بالكتابة عن تجربته،برغم سعة حبي وإعجابي به وبتطابق ذاته الإبداعية مع ذاته الإنسانية المرهفة حد التواضع الفذ والحياء البليغ،معللا نفسي بإنهمار وزخ ما كتب عنه من أمطار مقالات وآراء ولقاءات،كنت أجد أغلبها- عذرا- لا يعدو أن يكون مجرد ترداد وأجترار لصدى مقولات وشروحات لم تزد على ما أراد قوله والبوح به من عبر تدفقات رسوماته الرائقة على مدى قرابة ربع قرن من عمر تجربته-أنذاك- المسكوبة في عيون ومرآيا الوان مائية بمهارة وروحية غاية بالتميز والتفرد الذي وسمت به،وتعمقت أكثر وأبلغ حتى ساعات رحيله الأبدي،وحيال كل هذا-من قبل وبعد تأريخ معرضه الأخير في عمان/2006أي قبل عام هجرته الى أمريكا،كنت قد رأيت في عمق عينيه نظرات حيرة وخوف وجفاف ومشاعر شتى تغور لهبا في أنسجة وجدان روحه التي كانت موزعة-دون تساوي طبعا- ما بين(بغداد)والأبعد بقليل منها الى(كربلاء)حيث الولادة والنشأة وروح تلك الأماكن وفي مصدات حبه العجيب لناس،أعيد قولي ثانية أن أغلب تلك الكتابات والآراء ظلت ترواح في ظل أعجاب ضمني في طبيعة الحياة الصامتة والمناظر التي كانت تنشدها تلك الأعمال على فرض إنها مسلمات جمالية جاهزة للعرض والأعجاب دون إحداث خلخلة في منظومة التلقي وتغير أستجابات الحواس والفوز بلذة التأويل والمشاركة الفعلية ما بين العمل والمتلقي،بعد رؤيتي لملاك ذلك المعرض،تفاقمت عندي مشاعرعدة قادتها رغبات(عبدالأمير) بنشر مجموعة من رسوماته وتخطيطاته رفد بها صفحات جريدة الصباح على مدار قرابة عام كامل،إسهاما فكريا وجماليا وحرزا منه في أن يبقى متواصلا مع متابعيه هنا... ومن هنا وجدت نفسي تروق بكتابة مقالا واسعا تناول عمق وثراء بهاء تجربته،أفلحت بنشره في الصفحة الثقافية لنفس الجريدة(الصباح) يوم 13أيلول/ 2007تحت ثريا عنوان فيه من الدراما وقتامة الحزن ما جعله مثيرا وأثير وذا وقع في نفس ودواخل (عبدالأمير) كما هو المقال برمته،والذي هاتفني من أجله من ولاية(تكساس) للمرة الأولى والأخيرة منذ ذلك الحين،العنوان هو؛(عبدالأمير علوان.... محاولات شراء الزمن بالبكاء عليه).
ثمة سطور قد تشفع لنا في تريتب بعض جوانب تجربة هذا الفنان الذي أقترن أسمه بالأعمال المائية رغم فصاحة وبراعة أعتمال تموجات حبه للرسم بمادة الزيت وبلاغة ورهافة قوة التخطيطات التي تزن نفسها بميزان ومقاييس أعمال ملحمية كبيرة،تناسلت من مناسيب تجربته بفعل الثقة والإجتهاد الروحي وصفاء البال الذي يوهمنا به ويفرضه علينا بمقبولية حس وتوجس خاص ورهيف،في محاولة لكسر حاجز الخوف وتبديد فكرة الموت الذي يحدق بنا،تلزم علينا مهابة هذه التوريدات البصرية ومعاينة ما يسكنها من وعي أختزلات وتنويعات قصدية يراهن(عبدالأمير علوان) على بلوغلها دون إشعارنا بكميات الدقة وحسن الإنتقاء الذي لا يكاد يلامس قماش اللوحة أو أجساد الأوراق،ألأ لكي تورق الألوان وتزهر(كلما تزهر ... تكثر الأشواك) على مرآى مقاصده أحساسا غامرا ووعيا بليغا بقدسية وبراءة وطهارة الأشياء والمواضيع والمشاهد والوجوه التي يرسمها ويقترح عوالمها لكي يعيننا- ثانية- على حب الحياة والتخلي عن التخاصم معها بالطريقة والوثيقة التي كان يبتكرها الراحل(عبدالأمير).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram