هذا المقال هو الرابع ضمن سلسلة مقالاتنا عن التعليم العالي في العراق، وهو في طبيعة موضوعه، والجانب الذي نتناوله، بمثابة مكمّل للمقال السابق، أو قسم ثان منه. وفي العودة إلى المثال الرئيس الذي عرضناه سابقاً والذي اكتشف فيه عميد إحدى الكليات أنه، ليُكلِّ
هذا المقال هو الرابع ضمن سلسلة مقالاتنا عن التعليم العالي في العراق، وهو في طبيعة موضوعه، والجانب الذي نتناوله، بمثابة مكمّل للمقال السابق، أو قسم ثان منه. وفي العودة إلى المثال الرئيس الذي عرضناه سابقاً والذي اكتشف فيه عميد إحدى الكليات أنه، ليُكلِّف أستاذاً لديه بمسؤوليةٍ ما كمجلة الكلية العلمية، يحتاج إلى موافقات جهات عليا، نشير إلى أنه من الطريف أن الأستاذ الذي وصلت مجلة الكلية تحت مسؤوليته إلى مستوى علمي لا تُحسد الكلية عليه، يُعفى من مسؤوليته تلك، ولكن لا ليعود إلى مكانه أستاذاً تدريسياً في قسمه فقط، بل ليصير عميداً لكلية أخرى.
فلنتصور كيف إذن كان، وإلى حد ما لا زال، مسؤولو المؤسسات الأكاديمية يعيّنون وكيف يديرونها، مما نواصل هنا تصويره من خلال أمثلة تجسد الواقع الأكاديمي المأساوي الناتج عنه، مما هو تمثيل لبعضٍ من سلوكيات مسؤولين، رؤساء جامعات وعمداء ومعاوني عمداء ووصولاً إلى رؤساء أقسام. وفي جل ذلك سيظهر لنا أن غالبية هؤلاء المسؤولين مستعدون للتضحية بالأكاديمية وبالعلمية وبالمصلحة العامة، في سبيل البقاء على كراسي المناصب وما تتيحه لهم من (سلطات)، وتبعاً لذلك، ولحساب من هو وراء جلوسهم على هذه الكراسي، وتحديداً حين يجدون أنفسهم في مواقف يُضطرون فيها للاختيار ما بين الحفاظ على أكاديميتهم المقرون عادةً بالتضحية بالمنصب، والمنصب مقروناً بالتضحية بالأكاديمية. وبرأيي أن هذا الموقف تحديداً هو احد أكثر الامتحانات التي يمر بها أي مسؤول ليثبت فيه أنه أكاديمي أو ليسقط ملتصقاً بدبق كرسي المنصب الذي ما عاد يجتمع اليوم مع الأكاديمية. فالاكاديمي بحق الذي يتسلم المنصب هو الذي يوظف هذا الكرسي للأكاديمية، لا أن يوظف الأخيرة والـ(د) للكرسي. والواقع أن جنس الفعل الذي يأتي به المسؤول في هذا الاختبار هو الذي يحدد ما إذا كان يوظف الكرسي للأكاديمية أو العكس يوظف الأكاديمية للكرسي، ونزعم أن الغالبية العظمى من مسؤولي هذه الأيام من الأكاديميين هم من الفئة الأخيرة، بينما قلة هم- وبما يعني أنهم موجودون لحسن الحظ- من الفئة الأولى، وقد رأينا أحدهم، في المثال السابق الذي تنحّى فيه عميد الكلية عن منصبه حين وجد أنه، ليبقى فيه، يجب أن يُخضع أكاديميته للكرسي لا أن يُخضع الكرسي لأكاديميته. وهذا يقودنا إلى تحديد الفعل الصحيح الذي يجب أن يفعله المسؤول في هذا الامتحان، نعني إما أن ينجح في إخضاع الكرسي للأكاديمية بتطبيق السياقات الأكاديمية الصحيحة حين تكون الأوامر والتعليمات التي تأتيه من فوق خاطئة، أو لا ينجح وفي هذه الحالة يتنحّى ليسجل موقفاً ويصون أكاديميته من التلوث بدبَق الكرسي والمنصب وما تأتي به من امتيازات يُفترض أن يعي كل أستاذ أنها قاتلة لأكاديميته.
ومع وجود من يأبى التضحية بأكاديميته، فإن مَن يرتضون بهذه التضحية هم السواد الأعظم، ولولا هذا السواد الأعطم لما تردّت الأكاديمية وهبطت جامعاتنا وساءت أحوالها. فهل معقول مثلاً الهجوم الشهير الذي قام به قبل عامين أحد رؤساء الجامعات على (أبنائه) الطلبة المحتفلين بتخرّجهم، وبأسلوب يفتقد أية خصيصة أكاديمية أو علمية أو تربوية أو أبوية؟، وهل من مبرر له غير إرضاء المسؤول الأعلى والحفاظ على المنصب وبقاء الكرسي؟، ففعله لم يكن مبرراً حتى إن افترضنا أن الطلبة كانوا مخطئين، وهم على أية حال ما كانوا مخطئين بأي شكل من الأشكال، إن لم نقل أنهم كانوا في المواقف والسلوك الصحيحين، إذ كانوا يحتفلون ويرقصون فرحَ تحدًّ لسوء الأوضاع الأمنية التي تريد لها قوى الظلام مزيداً من السوء والتدهور، بينما ينقاد رئيس الجامعة لنوازع التطرف الاجتماعي والتربوي بل اللاتربوي.
ومن التجربة الذاتية استحضر مثالاً آخر اختارَ فيه المسؤول التطبيق الخاطئ لتعليمات إدارية خاطئة عن حالة أكاديمية، على الهدف الخطأ الذي هو طلبة دراسات عليا. فبدلاً من اللجوء إلى أحد خيارين: الأول عدم تطبيق التعليمات الخاطئة واستبدالها بقرار جريء صحيح، والثاني هو التخلي عن المنصب، طبق التعليمات الخاطئة لتكون النتيجة وقوع من طُبقت عليهم، وهم طلبة الدراسات العليا، ضحيةً نعتقد أن من كان وراءها يجب أن يُحاسب. وخلاصة المثال هو إبقاء طالبين بدون مشرفين ثلاثة أشهر لأن معاون العميد للشؤون العلمية(!!)، وربما قبله العميد، طبّق عليهم تعليمات ليست خاطئة فحسب، بل ساذجة بكل تعنيه الكلمة من معنى، وفحواها عدم جواز تجاوز المشرف على عدد محدّد للطلبة الذين يشرف عليهم كل مشرف، مع عدم الموافقة على تكليف مشرف خارجي.
والواقع أنني كنت أستغرب حين أجد مسؤولاً يرتضي مثل هكذا حالة يبقى معها طلبة دراسات عليا بدون مشرف أشهراً، بسبب تعليمات تصدر من جهة واضح أنها لا تعرف شيئاً عن واقع الدراسة في الكليات فتمنع تلك الكليات من تخطّي إشراف المشرف لعدد معين من الطلبة ومنعها في الوقت نفسه من تكليف مشرف خارجي. فمعروف أن هناك في جامعات الدنيا نوعين من الأنظمة أو المواقف من هذا الأمر، الأول يعتمد العدد المفتوح للطلبة الذين يشرف عليهم الأستاذ، كما هو حال الجامعات البريطانية أو جامعات بريطانية، وهنا أتذكر حين كنت قبل خمس سنوات أستاذاً زائراً في جامعة إكستر- وهي ضمن العشرة الأولى بين الجامعات البريطانية- أن أستاذاً كان يشرف على اثني عشر طالباً. والثاني هو عدم جواز قيام الأستاذ بالإشراف على أكثر من عدد محدد من الطلبة إلا عند الضرورة، وأعتقد أن جامعات أردنية تسير عليه. جامعاتنا أو التعليمات التي تأتيها من الـ(فوق) غير الأكاديمي غالباً لم تسِرْ على النظام الأول ولم تطبق النظام الثاني بشكل صحيح. فمما لا يعرفه بعض مسؤولينا، إمكانية تجاوز هذا العدد عند الضرورة، ببساطة لأن البديل الوحيد هو الإضرار بغاية العملية الأكاديمية وهي الطالب.
ومثل هذا كنت استغرب حين أجد رئاسة جامعة كبيرة، مثل جامعة بغداد، تشترك في إرباك طلبة الدراسات العليا، مع سبق الإصرار حين تُدخل نفسها في ما هي في غنىً عنه فتتمرد على تعليمات متّبعة ومستقرة تتعلق بتعليمات التمديد لطلبة الدراسات العليا بما في ذلك التمديد الأول الذي هو أصلاً من صلاحيات الكليات المعنية، ما يُدخل وجبات من الطلبة في دوامات وأزمات نفسية وحياتية واجتماعية والأهم أكاديمية/ علمية تعرقل مسارات دراساتهم. والمسؤولون أنفسهم لا يعرفون تماماً أنهم، ليحقق طلبة البحث الأكاديمي ولاسيما طلبة الدراسات العليا ما ننتظره منهم، مطالبون، بالمشاركة إلى جانب الكليات والأقسام العلمية والطلبة وأهاليهم، بل حتى الدولة على أعلى المستويات، في تهيئة الظروف الملائمة للبحث العلمي، العلمية منها والمالية والحياتية والأمنية، بدلاً من الإسهام، إلى جانب الظروف غير العادية التي يعيشها البلد من سنوات، في خلق حالات الاضطراب واللا استقرار. هنا أتذكر أن رئيس المعهد الذي كنت أدرس فيه في إحدى الجامعات البريطانية بداية الثمانينات طلبني يوماً، وانا بعدُ في الأشهر الأولى من عملي بإعداد اطروحتي. ذهبت إليه فدعاني إلى الجلوس ثم بدأ بما بدا لي أنه دردشة تسبق الدخول في ما أرادني من أجله، فسألني عن إجازتي الدراسية، ثم عما إذا ان راتبي من السفارة يصلني، ثم عن سكني، فأجبته عن كل ذلك. ثم سكتَ، فبادرتُه بأنه أرادني في شأن، ففوجئت به يقول: هو هذا الذي أردتك بشأنه.. أردتُ أن أتأكد من أنك مستقر حياتياً وأنت تبدأ عملك في الأطروحة. اندهشتُ اندهاشاً مقروناً بسعادة وغبطة بهكذا مسؤول، كما سأندهش بعد ثلاثة عقود من سلوك مسؤولي جامعاتنا مع طلبتهم الباحثين، لكنه الاندهاش الذي سيأتي هذه المرة مقروناً بالإحباط والحزن والخيبة من هؤلاء المسؤولين. فهل سيبقى مثل هكذا مسؤولين في ظل عهد أملنا أن يكون جديداً في هويته؟ تساؤل صريح نوجهه إلى الوزير الجديد.