عشية هجمة داعش البربرية على آثار مدينة الموصل وسواها من المدن العراقية المتاخمة، بكى الرجل بحرقة، حينما ارتسمت في ذهنه صور الحضارة الآشورية، وخشي ان تمنعه تلك الأحداث المؤسفة من العودة ثانية الى مدنية الناصرية-جنوب العراق، حيث يعمل منذ سنوات بمعية فر
عشية هجمة داعش البربرية على آثار مدينة الموصل وسواها من المدن العراقية المتاخمة، بكى الرجل بحرقة، حينما ارتسمت في ذهنه صور الحضارة الآشورية، وخشي ان تمنعه تلك الأحداث المؤسفة من العودة ثانية الى مدنية الناصرية-جنوب العراق، حيث يعمل منذ سنوات بمعية فريقه الآثاري. خبير إيطالي عالمي يستنزف يوميا جلّ طاقته الجسدية والذهنية لإظهار أمجاد الحضارة العراقية في أوروك ودفعها الى النور، فيما تحطم المعاول الهمجية ، بغباء مجيد ، ما تبقى من شواهد حية عن احد اعظم أزمان الحضارة العراقية القديمة عبر التاريخ.
***
منذ ان وصل عالم الآثار الإيطالي د. فرانكو دي اغستينو الى مدينة الناصرية، وقد جاءها مدفوعا بشغف وجداني ومعرفي يسعى للاكتشاف والتواصل، اصبح جزءاً من المدينة، صديقا لأدبائها وكتّابها ومثقفيها ومسؤوليها، ليس وفقا لما يقتضيه عمله الآثاري حسب، وانما لشغف حقيقي يستحثه للتعرف على مدينة الحرف الأول وملامسة ما تزخر به من مواهب وطاقات، وأمنيات بغد أفضل.
رجل واسع المعرفة واكاديمي بجامعة روما مختص بالسومريات، اختار السكن تحت ظلال الزقورة، لا يمنعه عوقه الجسدي الصعب عن تأدية عمله الخاص بالتنقيبات الاثارية بجدية فائقة وتفان قلّ نظيره، ولكونه يعد نفسه قريبا من الأدب والأدباء، فإنه غالبا ما يجد الوقت الكافي للمشاركة في ندوات ثقافية حول الحضارة العراقية القديمة، فنونها وآدابها، كما لا يفوّت فرصة حضور أية فعاليات اخرى، يقيمها اتحاد الأدباء او جامعة ذي قار او معهد الفنون الجميلة.
روائي من دون ان يصرح بذلك، نشر روايتين في ايطاليا، كما ترجم عن الروسية نصوصا للشاعر الكسندر بلوك الى اللغة الايطالية، والاهم انه مترجم متخصص باللغات الرافدينية القديمة، نشر عدة ترجمات لرقم طينية، في التجارة والحكمة والأناشيد الدينية.
يعمل د.فرانكو رئيسا للبعثة التنقيبية الايطالية- العراقية منذ أربعة أعوام في موقع أبو طبيرة – 8كم جنوب مدينة الناصرية- والذي يعود الى عصر الملك الأكدى سرجون- 2500 قبل الميلاد. تقدر مساحة الموقع بـ(40 ) هكتارا، وهي مساحة كبيرة تطلبت من الفريق الآثاري وضع خطة للعمل المتواصل ضمن عقد مع الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية تمتد لخمسة أعوام. وقد أنجزت أربعة مواسم تنقيبية ضمن هذا الاتفاق، وأسفرت عن نتائج ميدانية، ربما أهمها اكتشاف قصر كبير وقبور ودلائل عينية أخرى عن شكل الحياة اليومية في العراق القديم، فضلا عن العثور على عدد من اللقى الذهبية والفخار.
على الصعيد الثقافي شارك د.فرانكو بالتعاون مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب بذي قار في عدد من الفعاليات والأنشطة الثقافية، من بينها إقامه ورشة تفاعلية لمدة خمسة ايام عن "الكتابة من الرقم الطينية الى عصر الفضاء الالكتروني"،وورشة اخرى عن "تحرير الكتاب" استمرت لثلاثة أيام، بالإضافة الى ندوات متنوعة عن التطرف والتراث الثقافي وفنون النحت والفخار في التراث الرافديني القديم. كما عمل فرانكو مع جامعة ذي قار على إنشاء قسم للآثار، ووقعت اتفاقية بين جامعتي ذي قار وروما للتبادل الثقافي والعلمي بهذا الشأن.
يعتقد د.فرانكو"ان الغرض من التنقيب هو محاولة قراءة الماضي وكتابة غير المدون منه، وليس البحث عن الفخار أو اللقى، الأمر المهم الذي يستحق ان نمنحه جلّ اهتمامنا،هو الانسان وتاريخه وليس الحجر او الفخار حسب"
ليس بعيدا عن ذلك، يواصل الفنان كامل الموسوي، وهو فنان رائد تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد في ستينات القرن الماضي وله اهتمام خاص بالتراث الرافديني، أعماله التشكيلية المستوحاة من أجواء الحضارة العراقية القديمة. وقد انجز الكثير من الأعمال الفنية التي وصل بعضها الى عدد من متاحف العالم، في حين يحتفظ متحف الناصرية بعشرة أعمال فنية له.
عمله التشكيلي الأخير يوثق جانبا من عمل بعثة التنقيب التي يرأسها د. فرانكو، ويتضمن العمل العديد من الرموز السومرية المعروفة، الإله "سن" وزقورة أور وايضا موقع ابو طبيرة الذي يظهر اسفل اللوحة مع عدد من اللقى المكتشفة فيه، بوصفه محطة هادية في رحلة البحث عن أمجاد حضارة سومر، وثمة رموز ودلالات سومرية اخرى، منها القيثارة والكتابة والملك أورنمو والملك كوديا". فيما يتوسط اللوحة د. فرانكو والى جانبه العجلة التي أهدتها له شركة ايفيكو الايطالية للمساعدة في عمل البعثة.
يرى الفنان كامل الموسوي" ان عمله الفني يعنى بفكرة الارتباط بين العمل التنقيبي الجاري في موقع أبو طبيره والبحث عن أصول الحضارة السومرية، وهو إجمالا دعوة لاستلهام رموز التراث العراقي القديم في اللوحة التشكيلية".
من جانبه يقول الأستاذ أمير دوشي، المستشار الثقافي للبعثة "من الضروري البحث عما هو موحد بين العراقيين في زمن الفتنة الطائفية والاثنية الجارية اليوم، فالتراث الرافديني عامل موحد لكل العراقيين، وهو مصدر فخر واعتزاز للجميع. ولانه يمثل بعثا للهوية العراقية الحقة، فنحن احوج ما نكون للعناية به، من اجل تخطي الخلافات العابرة والنهل من وهج الذاكرة العراقية المشتركة."