TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مواقع التواصل الاجتماعيّ: طريقة الاستخدام الثقافيّ

مواقع التواصل الاجتماعيّ: طريقة الاستخدام الثقافيّ

نشر في: 6 مارس, 2015: 04:41 ص

صارت مواقع التواصل الاجتماعيّ اليوم منبراً من المنابر الثقافية المأخوذة بنظر الاعتبار. من كان يرفض من المثقفين العرب حتى الأمس الاقتراب منها صار من حرفائها والمتحمّسين لها. بعض (الكبار) فقط يتحاشاها، انطلاقاً من تصور ذاتيّ يتعلق بالعزلة الإبداعية التي قد تُقرأ رديفاً للتعالي علينا نحن قراءهم البسطاء ومحبّيهم. وبشكل عام، فإن رفض بعض المثقفين المعروفين ثم قبولهم لمواقع التواصل الاجتماعيّ هو أول الدلائل على الإمكانية الواسعة المتاحة للاستخدام الثقافيّ الذي اكْتُشِفَتْ أهميته تواصُلاً ونشراً ومتابعةً.
إذا ما اندرج التحاشي الكامل لمواقع التواصل الاجتماعيّ، في باب التعالي أو العزلة أو الزهد، فإن الانغماس بها محفوف كما برهنت التجارب بمخاطر لا تقلّ أهمية، وعلى رأسها الخشية من تكريس ثقافة منقوصة واعتبارها (الثقافة) أداة تعريف. ثقافة تقوم على المقتطفات والمختصرات في شؤون لا تحتمل ذلك، ومعرفة تنهض على الكلمة ونصف كلمة، حتى أن المادة الرصينة الطويلة تصير ممجوجة، غير مقروءة، رغم أهمية بعضها. من جهة أخرى، ثقافة تُكرِّس (الأنا) بصفتها (حائط) مبكى وحيداً. إذا فعلت مواقع التواصل الاجتماعيّ ذلك بالفعل فإنها تُرسِّخ في الحقيقة وَهْماً ثقافياً لدى أجيال فتحت عينيها على هذا النمط من التعبير، وعلى الأجيال الأخرى التي تساير هذا النمط. وهنا تتداخل المشكلات السوسيولوجية والسياسية والكبت الجنسيّ الذي يضفي مديحاً على نصوص نسائية ورجالية قد لا يُتفق بشأنها.
إن حرية التعبير الثقافيّ في مجتمعات عربية خارجة من قمع الدولة الوطنية التي طال أمد قمعها منذ الاستقلال، لا تتسق دوماً مع شروط الحرية المتاحة في هذه المواقع. يمكن أن نعلّق على ما يكتب الآخرون مثلما يعلقون على ما نكتب. بعض التعليقات تنقصها (اللياقة)، فهي حادة مباشرة، وأحياناً تنطوي على شتائم مُضْمَرة بارعة. ينسى بعض المستخدمين العرب بأن اللياقة لا تتعارض مع حرية التعبير، وأن اللياقة لا تعني مصادرة الآراء، لذا لدينا البراهين على أن فاقد اللياقة قد يعتقد أنه، بصفته قارئاً أو مثقفاً متابعاً، إنما هو سبب مجد الآخرين، ومن دونه لا تقوم لأحد قائمة، فيحسب بأن له مطلق الحرية بقول ما يشاء، خبط عشواء أحياناً. هذا وهْمٌ آخر، إذ أن بعض من نشير إليه هنا ليس بداعم لأحد، وليس من قرّاء أحد، ولم يدافع عن أحد وليس سبباً لمجد أحد، ورغم ذلك فهو يستخدم حائطك أنتَ نفسك للنيل منكَ.
لقد برهنت هذه الوسائط من جهة أخرى أنها تقدّم سعادة الاتصال بالآخر، حتى أن لا صوت، على حدّ علمنا، ارتفع شاكياً من إمكانياتها في المجال التواصليّ. كما أنها ضدّ طغيان الصوت الأوحد والمنبر الوحيد واحتكار ترويج الثقافة. سعادتنا لا تُوصف باللقاء، دون حدود وبدون رقابة، مع آخر مختلف أو مؤتلف. لقد انفرط عقد الحدود، حتى صار لنا أحباب جدد، لا مثيل لهم. أحباب لا يمكن التفريط بهم.
سعادة تنسجم مع علاقات الثقافة التي لعلها تتابع قوانين القوارير المستطرقة، إذا ما فهمنا أن الوسط الثقافيّ العربيّ هو وسط إنسانيّ تحكمه، نظرياً، علاقات الاجتماع والألفة والارتباط الودود. وتحكمه عملياً بالنسبة لبعض المستخدمين علاقات أخرى: ترتيب العلاقات الشخصية وتكوين الصداقات من دون اعتبار إلا للمنافع الذاتية، مشتغلاً كالأواني المستطرقة التي ترفع السوائل جميعها إلى المستوى نفسه، متجاهلاً أن إرضاء الناس جميعاً غاية لا تُدرك، أو تصير شيئاً آخر.
لقد أثار الترحاب أو عدم الترحاب (لايك) بالمنشورات الشخصية في بعض هذه الوسائط شجوناً. ولوحظ أن الثقافة الجادّة لا تحوز إلا على القليل من الترحاب، بينما تتميّز منشورات النساء غالباً بالعدد الأكبر من المتحمّسين. وقد وقع تناسي أن الكثير من العازفين عن رفع أصابعهم تقديراً، لم يرفعوا أصبعاً واحداً لبعض أقرانهم قبل اختراع الفيسبوك، ومنذ زمن بعيد، قبل فكرة (مُبادَلة) الإعجاب و(بالتناوُب) التي يُحَاجَجُ بها.
جميع المعطيات الملحوظة منذ زمن طويل في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، حاضرة حرفياً في مواقع التواصل الاجتماعيّ، لذا فإن طريقة الاستخدام لا تختلف بشيء هنا وهناك. يا للبداهة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: من يحاسب ضباط الداخلية ؟

التحدي الوجودي للمشرق العربي

قناطر: الزبير والمُستزْبِرون

هل تعد واشنطن لاتصالات سرية مع إيران؟

قناديل: خسر كوبولا ملايينه. هل ربح نفسه؟

العمود الثامن: من يحاسب ضباط الداخلية ؟

 علي حسين قالوا في تسويغ جريمة تعذيب وقتل المهندس بشير خالد، إنها حادثة طبيعية، مجرد شجار بين السجناء ادى الى نهاية حياة مواطن بوحشية، وطالبتنا وزارة الداخلية بان نكون مع الصادقين، وان لا...
علي حسين

قناديل: خسر كوبولا ملايينه. هل ربح نفسه؟

 لطفية الدليمي لم أصدّق نفسي بادئ الأمر. فرنسيس فورد كوبولا، صانعُ الروائع السينمائية (العرّاب) و (القيامة الآن) و(المحادثة) تتوّجُهُ الأكاديمية السينمائية الأشهر في العالم على رأس قائمة الأفلام الأسوأ صناعة. هكذا رأى أقطاب...
لطفية الدليمي

قناطر: الزبير والمُستزْبِرون

طالب عبد العزيز أثارت دعاوى بعض النوّاب والشخصيات الاجتماعية من (المستزبرين) الخاصة بجعل قضاء الزبير محافظة ردود أفعال رسمية شعبية كبيرة، خلال الأسبوعين الماضيين، ودافع عنها البعض على المستويين الرسمي والشعبي، واستنكرها غالبيةُ البصريين...
طالب عبد العزيز

التحدي الوجودي للمشرق العربي

فراس ناجي تواجه دول ومجتمعات المشرق العربي تحدياً وجودياً عبر حالة التوحش اللاإنساني في استعمال القوة لفرض إرادة المشروع الاستيطاني الصهيوني التوسعي بالتزامن مع انهيار مبادئ النظام الدولي وشلل مؤسساته المعنية بتطبيق هذه المبادئ....
فراس ناجي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram