TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > موريس بلانشو: الصورة بصفتها جثةً

موريس بلانشو: الصورة بصفتها جثةً

نشر في: 29 مايو, 2015: 09:01 م

تتلخّص نظرية أفلاطون عن الفن، كما شرحها في (الجمهورية) بمرموزة الكهف: استحالة الفن (والصورة Image ضمناً) على نقل معرفة موضوعية عن الواقع. فحوى المرموزة هو التالي: تقبع الكائنات البشرية في كهف تحت الأرض، له ممرّ طويل باتجاه النور الخارجيّ، عاشت تلك الكائنات هناك منذ الطفولة، وقُيّدتْ أرجلها وأعناقها بالسلاسل، فلا تستطيع الحركة والرؤية، سوى ما يقع حصرياً أمام أنظارها، فالسلاسل تمنعها من الالتفات. على مقربة منها نار تتصاعد يفصل بينها والكائنات طريق مرتفع. بالنتيجة لا يرى البشر سوى ظلال الأشياء والموجودات تتحرك أمامها، فلنقلْ صورة للظلال وحدها تسقط أمام أبصارها على جدار الكهف.
ما نراه وفق أفلاطون ليس سوى الظلّ، سوى الوَهْم، سوى وَهْم الواقع. الفن لا يستطيع تقديم تَصوُّر موضوعيّ للوجود، وإذا كانت الصورة نمطاً فنياً فبإمكاننا القول أنها تقدّم بالأحرى أوهاماً عن الواقع.
أما موريس بلانشو فقد اختار الجثة كمثال نموذجيّ وكاستعارة للصورة ، منطلقاً من فكرته عن الأفتتان fascination. ولفهم العلاقة التي يقيمها بلانشو بين مفهوم الافتتان والصورة، تتوجب العودة إلى الأصل الاشتقاقي اللاتينيّ للمفردة التي تأتي من الفعل اللاتينيّ fascinare أي خلَبَ وسَحَرَ، أو ألقى قدَرَاً، نصيباً، ظلالاً. ثم أخذت المعنين التاليين الذين يهماننا هنا. أولاً: السيطرة على شخص أو شيء، تجميده بتثبيت النظر عليه، وكان يُستخدم عند الحديث عن بعض الحيوانات، والسلطة المُنوِّمة المعطاة لبعض الزواحف لشلّ حركة فريستها وتسهيل القبض عليها. ثانياً: الأسْر أو الجذب عند الحديث عن تأثير وميض الحاجيات اللمّاعة على بعض الحيوانات. للافتتان علاقة أصلية إذنْ بالنظر الخلّاب، وسلطة التنويم المغناطيسيّ والوميض السحريّ.
جعل بلانشوالافتتان، كما تقول أليس ديلموت - التير، في تعارُض مع السيطرة التقليدية المنسوبة للبصر (الرؤية)، ففي حين يقترح البصر مسافة تتجنب الاتصال والالتباس وتسمح اللقاء بالحاجية والسيطرة عليها؛ يكشف الافتتان، خلافاً لذلك، مجال المبصور (أو المنظور إليه) الذي لا يستطيع الافلات من مجال الدهشة والصلة الخلّابة: المبصور يَفْرض نفسه فرضاً على النظرة (أو البصر). الصورة وفقاً للشائع تلي الحاجية التي تعيد، هذه الصورة، تقديمها re-présente في موقف الـ (بَعْد،أو الفيما بعد) الذي يفترض في آن واحد تبعيّة وجودية وصلة زمنية بين الصورة والحاجية. لكن بلانشو يتشكك جذريا في ذلك الـ (بَعْدُ، الفيما بعد) الذي لعله يَسِمُ، وفق رؤيته، مصيرها الفلسفيّ. النتيجة هي توصُّله إلى مفهوم آخر للصورة: إنها تتميز بقدرتها على تقديم الغياب عند حضور الجوهريّ وعبر التباسه، فما نراه في صورةٍ حاضرةٍ أمامنا ليس إلا حاجية أو كائن غائب في حقيقة الأمر، ما نراه يقع فينا، في افتتاننا.
يختار بلانشو الجثة كمثال نموذجيّ للصورة والافتتان الذي تولِّده: "الصورة، للوهلة الأولى، لا تشبه الجثة، ولكن غرابة الجثة يمكن أن تكون هي أيضاً غرابة الصورة". مثل الصورة، تفلت الجثة من التصنيفات الشائعة: هي ليست تلك التي كان على قيد الحياة، ولا أخرى، ولا مجرد "شيء". ومثل الكتابة، فإن الحلم وكل ما يتعلق بالمجال الفتّان للمخيلة، فإن سبيل وجود الجثة ليس ببساطة سبيل عدم الوجود: توجد الجثة في منطقة وسطى بين ما يَفْصل ويوحِّد الحياة والموت، وهي كالصورة التي تحتلّ مساحة غريبة ومقلقة بين الواقع - الذي يُفترَض لها تمثيله - وتحوّلها في المخيلة. الجثة تُضاعف الحيّ، أنها تشبهه تماماً دون أن تشبهه رغم ذلك، لأننا نَعِيْها على أنها أكثر جمالاً وضخامة وأكبر من الحيّ. في مواجهة الجثة، نقوم بتجربة - الشَّبَه التقريبيّ عن جدارة، شَبَهٌ لا يشابه شيئاً".
على التباعد الزمنيّ واختلاف المنطق الفلسفيّ بين أفلاطون وبلانشو، ثمة مساءلة لقدرات الصورة على النقل الموضوعيّ، لكنها مساءلةّ من طبيعتين نظريتين مختلفتين: عند أفلاطون الصورة في حقل الوَهْم، وعند بلانشو في نطاق افتتان وتحوّلات الذات التي تتخيّل. الصورة حاضرة بصفتها غياباً عند كليهما: ظلاً عند أفلاطون وجثة عند بلانشو.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ناجي يعقوبي

    اهلا دكتور : ربما الذي ابهرني في هذا التلاقي الراقي الذي اوجدته بين افلاطون الوهم وبلانشو الجثة هو ماتسلل الي من التقابل الخفي بين جثة بلانشو وجسد افلاطون ، اي ان جثة بلانشو لاهي حية فتعيش ولا هي شيء فيغيب فهي حاضرة بالغياب في الحاضر ،اما جسد افلاطون

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram