TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الصورة: المُقدّس والمُدنّس اليوم

الصورة: المُقدّس والمُدنّس اليوم

نشر في: 3 يوليو, 2015: 09:01 م

في الإرث الإسلاميّ قد تقع الكتابة والمكتوب والخط العربيّ في إطار (المُقدّس)، ويمكن أن تُفهم الصورة في إطار (المُدنّس). لا يعني أننا نوافق هنا على ذلك، وعلينا دائماً التوقّف أمام الظلال والاستثناءات وشروط عمل الثقافة التاريخية والاجتماعية التي قد تسحق وتُطْفئ الفكرة برمتها.
لكن لنبق أمام الخطاطة السائدة المريحة التي رُسمتْ ومَنحتْ للمكتوب صفة القداسة، وللبصريّ التشخيصيّ صفة الدنس. فالخط حسب ياقوت المستعصميّ هو "هندسة روحانية تمّت بآلة جسمانية"، وهو، وفق تيّار عريض من الباحثين العرب المعاصرين، من أكثر الأشكال قداسة لارتباطه المباشر بدلالته اللغوية المقدسة، أي كتابة النصّ القرآنيّ.
أما هجاء الصورة، كراهيتها أو تحريمها، فله إرث عريق في ثقافتنا. بمناسبة الحديث الوارد عن طريق عائشة عندما اشترتْ نمرقة فيها تصاوير، يلخّص العسقلانيّ في (شرح الباري) الأمر برمته بقوله: "ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظلّ أو لا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، خلافاً لمن استثنى النسج وادعى أنه ليس بتصوير..". وقد ذهب بعض الوهابيين بعيداً، مُحرّمين التصوير الفوتوغرافي، فأفتى الشيخ عبد العزيز بن باز أن (التصوير لا يجوز لا باليد ولا بغير اليد: التصوير كله منكر..).
هاكم المفارقة: في عالم الفضائيات الجماهيرية، تتجاوَر "الكتابة" ذات البعد النظريّ المقدّس، مع "الصورة" ذات البعد النظريّ المُدنّس. وكلاهما لا يُقِيْمان، في حمّى الصراع الراهن، أدنى اعتبار للقيم الروحية أو الأخلاقية أو الإنسانية للمقدّس وللمدنس كليهما. هذا الصراع يلفّ المفهومين ويلغيهما، كما فعَل دائماً وأبداً السياقُ التاريخيّ. أننا في حمّى استخدام مريب، إعلاميّ يَحْسب الكلام، ويخلط الصدق بالكذب، مكتوب أسفل الشاشة بالحروف العربية نفسها التي ارتبطت بالقداسة الافتراضية والبعد الروحانيّ المزعوم. إننا أيضاً في حمّى تسابق لا مثيل له في استخدام الصورة، المرسومة أو الفوتوغرافية، وتطويعها للسياسات والاستراتيجيات والحروب.
لا الكتابة اليوم في نطاق المقدّس، ولا الصورة في سياق المدنّس. فلنقلْ إن الشروط الضاغطة والاحتياجات قد ألغت تماماً هذه الخطاطة السهلة، بالنسبة للمُستخدمين الدنيويين الكُثْر، وليس دائماً بالنسبة للمُنَظِّرِيْن المُطهَّرين الآخرويين.
هذه مفارقة أخرى، فهؤلاء الدعاة الدينيون السلفيون الآخرويون مسموعون على كل صعيد آخر، سوى صعيد اعتقادهم بدنس الصورة. بل أن داعش يتفنن في استخدام الصورة، مدهونةَ أو منقوشةً أو منقورةَ أو منسوجةً، متحرّكةً أو صحفيةً، مرسومة باليد أو فوتوغرافية. إن التقنيات التي يستخدمها داعش ولقطات الإغراق بالماء، وقبلها الإعدامات في ليبيا، واللون البرتقاليّ الطاغي، المتعمّد، جوار سواد أشباح داعش وراياته السود، لا تدع مجالاً للشك أن فن الصورة، وفن إنشاء عناصرها عبر مفهوم المحاكاة اليونانيّ والُمَسْرَحة الحديثة (الإغراق في العراق والإعدام على شاطئ البحر في ليبيا)، يتمّ بعيداً جداً عن التعاليم الإسلامية المتشددة المعروفة بشأن الصورة، يتجاوزها ويتعدّاها وصولاً إلى الكفر بها، في حالة البغداديّ وفي حالات الفضائيات السلفية.
هذه المفارقة لا تُحلّ إلا بفهم أن الحياة أقوى من التشددّ الدينيّ، وأنها تتجاوزه بأشواط وتُجْبره على اللحاق بها. لكنها تعني أن الفكر السلفيّ مصاب بالبارانويا والانفصام، وأنه تلفيقيّ عن جدارة، يختار ما يعجبه ويؤوّل ما لا يعجبه، لغرض دنيويّ في نهاية المطاف. جلياً رأينا ذلك أيضاَ في الحيوات الشخصية لبعض السلفيين.
الخط العربيّ اليوم وبالأمس ليس في نطاق المقدّس، والصورة ليست في سياق المدنّس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram