TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نادرة محمود: المزاج الشخصيّ

نادرة محمود: المزاج الشخصيّ

نشر في: 11 ديسمبر, 2015: 09:01 م

(1– 2)
كتبتُ هنا لمرتين متواليتين عن هذه الفنانة العمانية، وأودّ العودة إليها مرتين جديدتين، بسبب أهمية عملها عربياً، وخليجياً خاصة.
ففي أعمال نادرة محمود، يستطيع المرء تلمُّس تأويل شخصيّ للروحانيات الآسيوية في الفن. تأويل موصول بالتجربة الروحية المحلية. هنا تتقارب الخطوات وتتقاطع وتتفارق, حتى أن أيّ تفسير لتقارب البحوث الجمالية والتشكيلية، انطلاقاً من عملية (التثاقف التشكيليّ) المعقَّدة وحدها لا يكفي لتمييز المذاق الخاص بهذا الفنان أو ذاك. ما الذي يجعل مجموعة من الفنانين، رغم الجغرافيا وعدم معرفتهم ببعضهم، ينهمكون على الموضوع عينه والهمّ نفسه؟ أجد أن اهتمام نادرة محمود بالفن الآسيويّ (وقد حدّثتني عن فنان كوريّ) إنما هو تعبير عن انشغال دائب بالروحانية، والروحانيّ لا يتعلق بدِيْن أو ثقافة محدّدة، ومن هنا تطلع التقاطعات بين الذين ينشغلون بهذا الروحانيّ. تقع أهمية التقاطع في أهمية الانشغال على الموضوع العريض، وفي الصفاء الروحيّ الواجد في العمل التشكيليّ مستقراً له. على أي حال، كل مقاربة جادة لا تستهدف إلا أمراً واحداً هو الكشف عن انشغال الفنان الجوهريّ، كما يتبيّن له أو يبدو في عيون مشاهديه.
من هنا يمكن القول إن نادرة محمود تفهم حاسة اللمس بصفتها تشبُّثاً بمادة العالم الأصلية. قد لا يكون استخدام مفردة (مَلْمَس) اللوحة عند الحديث عن أعمال نادرة محمود دقيقاً. وهو ليس دقيقا، على أيّ حال في كل مقام آخر تبرز فيه القضية، ذلك أن المَلْمَس لا يَتمّ التعرُّف عليه بحاسّة اللمس ولكن بالإدراك حتى دون مسّ اللوحة قطّ. لا تعبّر العربية بدقة عن مفردة قد تكون الأدقّ في وصف جزء كبير من أعمال نادرة وهي (tactile) التي تضرب في اللاتينية، وفيها تعني المفردة أن الأمر المقصود جليّ كأنه محسوس دون لمسه، وأيضاً أنه يمكن مسّه والإحساس به. ثم صارت تعني فيما بعد أن المقصود كيّسٌ لطيفٌ ويمكن مداعبته لَمْسَاً.
تشيع لوحاتها إحساساً لمسيّاً haptique وهنا مفردة أخرى تقول بالأحرى مفهوماً صالحاً لوصف هذه الشريحة الكبيرة من أعمال الفنانة. المصطلح من أصل يونانيّ، ويَصِفُ بالأصل واقعة اللمس ثم في علم النفس عند مقارَبة السطوح المتقاطعة البينيّة التي توفّر هذا الإحساس. هنا نتحدث عن نظام استقبال لمسيّ ذهنيّ يستطيع إدراك جميع ميزات الأشياء ثلاثية الأبعاد التي يمكن رؤيتها بحاسة البصر، أي دون مسّها. أليس هذا هو ما ندركه فوراً من (رؤية) أي عمل تشكيليّ مهموم بالمَلْمَس؟.
لكن هذا لا يكفي وحده عند تفسير الظاهرة في أعمال نادرة محمود، لان هذا الإحساس اللمسيّ من البداهة والإلحاح عندها حتى أنه يصير دعوة مُضْمَرة للتشبُّث بالمادة الأصلية التي تكوُّن العالم، قبل الهيئات والشخوص التي سوف تتشكّل منها فيما بعد. هنا نحن في عودة للأصل البدئيّ، وللهمّ الروحانيّ عبر طريق آخر.
نادرة محمود، لهذا السبب، صانعة ورق. تصنع نادرة محمود ورق الرسم بنفسها، وتتعلم طرق صناعته في مشاغل الأساتذة الآسيويين. في ذلك دلالة تؤكد من جديد، هذه الرغبة في التوصّل إلى "لبّ العالم"، إلى مادته التي هي في آن واحد ذات ميزات عالية من الهشاشة، وذات طبيعة وجودية، في وظائفها وتجليات أشكالها وحواملها.
(لُبّ) العالم، أي جوهره. ليس غريباً أن تدل مفردة اللبّ في عربيتنا إلى أمرين في آن واحد: لُبُّ كلِّ شيءٍ، ولُبابُه إنما هو خالِصُه وخِـيارُه، ولُبُّ كلِّ شيءٍ هو نفسُه وحَقِـيقَتُه، من جهة، ومن جهة أخرى لُبُّ الإنسان هو ما جُعِل في قَلْبه من العَقْل.
أعمال نادرة محمود، صانعة عجينة الورق تنحني على عجينة الخالص والحقيقيّ، وهذا هو معنى المعنى التشكيليّ الذي يخاطب ذوي الألباب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. سعيد المصرى

    نجمة العرب

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram