TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > فصلٌ آخر من الكوميديا السوداء : الذي يأتي ولا يأتي...

فصلٌ آخر من الكوميديا السوداء : الذي يأتي ولا يأتي...

نشر في: 19 إبريل, 2016: 09:28 م

في ظروفٍ غير مواتية للكاتب، يُصبح الرمز قالب إبداعه، يلتقط الممنوع ليحوّله إلى مألوفٍ ينبض بين السطور. وكذا الحال مع الأنواع والأساليب الفنية في الكتابة ودلالاتها. ومن بين الأساليب التي تُعمّق الرؤية الفنية وتمنحها مساحة خارج دلالاتها المباشرة، قَلبُ

في ظروفٍ غير مواتية للكاتب، يُصبح الرمز قالب إبداعه، يلتقط الممنوع ليحوّله إلى مألوفٍ ينبض بين السطور. وكذا الحال مع الأنواع والأساليب الفنية في الكتابة ودلالاتها. ومن بين الأساليب التي تُعمّق الرؤية الفنية وتمنحها مساحة خارج دلالاتها المباشرة، قَلبُ الأمور، فأنت تقرأ كافكا في "المسخ"، وألبير كامو في "الطاعون"، وديستوفسكي في "الإنسان الصرصار"،  فيمنحك ما يبدو في النص من نكوصٍ وارتداد وعزلة  "سلبية"، شحناتٍ للتمرد والرفض وطاقة للانقلاب على الواقع والنهوض لتغييره. هكذا كان مفعول الأدب الروسي العظيم في زمن القيصرية.  ومثله الأدوار المتلألئة  للأعمال الإبداعية لكبار الكتّاب عشية الثورة الفرنسية، والثورات الكبرى التي أسست لعصر الحرية وحقوق الإنسان والتحرر الوطني في العالم الثالث.
وقد لا يبدو هذا ماكناً في ظروفٍ يُتاح فيها الكلام المباح، تعويضاً عن الحرمان من وسائل العيش الكريم والخدمات والشعور بالأمان، مع أن التابوات الدينية والمذهبية والعشائرية، خارج سياقات الدستور والقوانين الوضعية، تضيّق من فسحة حرية الرأي والعقيدة والاجتهاد، وتعيد الاعتبار للأنواع التعبيرية في عملية الخلق والإبداع والكتابة التي ارتبطت بالأنظمة الشمولية الاستبدادية. لكن الممكن وغير الممكن لا يصلحان قاعدة لأحوالنا في العراق، فنحن نعيش مرحلة تأسيس أنساقٍ غير مطروقة على كلّ صعيدٍ وفي كلّ ميدان.
كيف يمكن أن نكون طلقاء، أحراراً، والحدود بين الديني والسياسي تتّكئ على فارزة، هي نفسها موضع تساؤلٍ واستفهام؟ فالمقدّس الديني إذ تلوّثه السياسة وتجرّده من حيثياته الاعتبارية، يظل مقدّساً بمنأىً عن التناول والنقد والمساءلة، والسياسي وهو يتلوّث بالفساد والارتكابات والمعاصي، يلوذ بالعشيرة أو الميليشيات، "المهذَّبة" منها أو الوقحة. وفي كل الأحوال تظل عباءة الدين أو المذهب متاحة له للانقلاب على سواها من الملاذات والمتّكآت، إن وجد فيهما الملاذ الآمن.
وفي ظرفٍ كهذا الذي نحن نعيش على تخومه، حيث تتداخل الحدود، يَحار الكاتب المُبرَّءُ من متكآت وملاذات الطوائف والأديان والتابوات المتكاثرة، الولّادة، أنّى له أن يقول كلمة تدلل على الحقيقة أو وصفاً لمشهدٍ يبدو "تراجيدياً" فيراه الجمع المتوارِث للحقيقة المطلقة "ملهاةً" وإن شاء قلَّبَها الى نوعٍ غير مسبوقٍ من مدرسة ما بعد الحداثة، فللضرورة في ما لا نراه نحن أحكام، وأي أحكام..!
يرى البعض من مثقفينا، أن الكوميديا السوداء نسقٌ يُخفي المساحة المضيئة من مستقبلٍ قد يراه بعضٌ منذورٌ بالفطرة للتشاؤم، إيغالاً في التشاؤم وانسلاخاً عن واقعٍ يمور بالحركة، يفتح أبواباً للفرج والتجدد الثوري، وأبواباً مفتوحة على المستقبل تقتضي انفتاحاً غير مشروطٍ على التفاؤل التاريخي، وليس لكلٍّ هاوٍ مُتطيّرٍ مجبولٍ على المحافظة أن يلج مثل هذه الأبواب!
ولكي لا أُحرم نفسي الأمّارة بالظنون، جرّبتُ أن أنزع نظاراتي السوداء وأنفتح على مدياتٍ من الأمل والتفاؤل لا قدرة على إطفاء وهجها، سواتر أو حدوداً افتراضيةٍ مفتعلة، واستَعَدّتُ مشاهد تتسع مساحاتها في بغداد، لتغطي أهم ما فيها من طرقاتٍ ومبانٍ حكومية ومراكز قرار وسواها من نبض العاصمة، وافترضتُ أنني زائرٌ غريب قادم من بلدٍ لا يريد الإصلاح ولا يعرف معنى التكنوقراط، ولم يقرأ عن الوقاحة غير معنىً واحد لانعدام الأخلاق، وصادف أن كان في ضيافتي " بغدادي قح " ودار بيني وبينه هذا الحوار :
- لماذا كلّ هؤلاء الناس متجمّعون في الشوارع والحارات، يُطوقّون بعضهم البعض الآخر..؟
- إنهم معتصمون يعبِّرون عن دعمهم لبرلمانيين اعتصموا لفرض حكومة تكنوقراطية مستقلة.
- ولماذا يعتصم البرلمانيون بدلاً من اتخاذ قرارٍ بالتصويت على الحكومة الجديدة..؟
- لغياب النصاب، ولأنهم يريدون إقالة رئاسة البرلمان وانتخاب رئاسة جديدة..
- وهل يقتضي غياب النصاب عندكم الاعتصام في البرلمان؟..
- هذا أمر يطول شرحه. ولتبسيط الفكرة، نحن نريد تجاوز الكثير مما ينقصنا. مثلاً نحن بلا كهرباء ولا ماء صالح للشرب ولا خدمات، ومصانعنا متروكة للتلف، وأراضينا الخصبة صارت بواراً، وتنقصنا إضافة إلى كل هذا قيمٌ كثيرة، لكننا نبتكر تجارب صالحة للتصدير. الفساد مثلاً، فساد حسب الطلب. شراء الذمم. النهب المنظّم والتهريب. القتل على الهوية. تحويل غير المألوف الى مألوف ووجهة نظر. ولهذا نحن نعتصم لننقلب على أنفسنا، ونتظاهر لنُسقط الغير وننأى بأنفسنا من الحساب.
- وهؤلاء المتظاهرون والمعتصمون، ألا يذهبون الى العمل..؟
- لو كان لهم عمل، لما تظاهروا وطالبوا بالتغيير والإصلاح..إنهم مهمّشون ويهيمون في العشوائيات مع عوائلهم..
- تغيير ماذا وأيّ إصلاح..؟
- لدينا هُتاف يلخّص لك الموقف: " بالروح بالدم، نفديك ياهو الچان"..!
- وأين الشرطة ورجال الأمن؟ ومن يحمي مراكز الدولة والحكومة..؟
- الدولة ؟! نحن نعيش فترة استراحة من الدولة. ربما نريد تجربة الدولة الفوضوية بنسختها المعاصرة.
- ولماذا يقطعون الطرقات؟
- لحماية الناس من الوزراء الهاربين من مكاتبهم، فأنت لا تعرف تقاليد بلادنا.  إنّ المواطنين يصبحون دروعاً بشرية، لا فرق إن كانوا مأسورين في إمارة الخلافة الداعشية أو هنا وهناك.
- قلتَ لي إنّ المعتصمين يريدون حكومة تكنوقراط، وأين يجدونهم ومعلوماتي تشير الى أنهم انقرضوا مع الجيل الثالث من تطور التكنولوجيا الجينية "الجينوم".
- لا أعرف بالضبط. ربما هم قيد الاستيراد من الصين، فنحن نستهلك كل أشيائنا من صناعة صينية. حتى العقال والكوفيّة وطباعة الكتب المقدسة والملابس الكردية أيضاً..!
- هل هؤلاء جميعاً من عشيرة واحدة..؟
- لا لا أبداً.. إنهم من عشائر وأحزاب وكتل متنافرة. تجد فيهم كل ما يروق لك، مثل الفساد المصمم للتصدير وحسب الطلب..
- هل يمكن نقل العرض إلى بلادنا..؟
- عليك أن تذهب الى البرلمان وتتفاوض معهم، أو الى الرئاسات الثلاث، أو لا عليك.. قد تتعرّض للخطر..
- لماذا، هل هم من أكلة لحوم البشر..؟!
- يبدو أنني لم أوفّق في تقريب الصورة لك.. أنت متشائم..!
- متى يأتي صاحبنا؟
- قد يأتي وقد لا يأتي، "تلك هي المسألة "...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. خليلو...

    هل مجيؤه يقترن بخلق الوضع لكي يتحقق السبب والنتيجة ؟ فليطمئنوا فإنه لا يأتي ابدا،كما ان جودوا لن يأتي ابدا لأنهما غير موجودين أصلا فالأول زال قبل إدراكه مرحلة القدرة على إلإمساك بقياد الأمور والثاني هو والعدم صنوان عصيان على الفكاك عن بعضهما ..كلنا أو قل

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram