TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الدانديّ الحداثيّ لدى بودلير هل هو الغندور العربيّ؟

الدانديّ الحداثيّ لدى بودلير هل هو الغندور العربيّ؟

نشر في: 19 أغسطس, 2016: 09:01 م

حلل فوكو حداثة بودلير على أساس أنها كسر للتقليد، شعور بالجدة أو هي دوار سعيد في مواجهة لحظة الحاضر العابرة. رأى فوكو في كتابات بودلير النموذج الجمالي الذاتيّ المُعبّر عن مفهوم الفن الحديث، أي العلاقة التي على المرء إقامتها مع ذاته. ليس من تعاليم حداثية بالنسبة لفوكو، المنطلق من بودلير، إنما يوجد موقف حديث modern attitude، موقف عريض يمثله عنده  الدانديُّ dandy، ما قد نترجمه إلى العربية بالمتأنّق (الغندورـ الدلّول)، المتسكع الجوّال على غير هدى مثلما يتصرف عن قناعة كثير من الفنانين والشعراء الحديثين بعد بودلير وعلى خطاه. كان بودلير يرتدي ثيابه المتأنقة ويتصرّف اجتماعياً بصفته داندياً، بل بوهيمياً. كان بودلير يفضّل الكائن الوهميّ جزئيا، الحقيقي جزئياً، من أجل مسعاه الذاتي لتنمية فكرة الجمال الحديث في شخصيته، ولتلبية شغفه بأن يشعر وأن يفكّر في آن واحد. الذات هنا مركز جوهريّ بالنسبة للداندي الحداثيّ، بل هنا بالأحرى عبادة الذات القائمة على مفهوم اللامباة، ذلك أن التأنقية أو الداندية هي مظهر من مظاهر النشاط الحياتيّ غير النفعيّ القائم على أساس الحرية التي تتفارق مع (العامة – الجمهور العريض) لأنها تبتغي العيش في جمال حقيقيّ، وإنْ بثمن الانشقاق والتمزّق النفسيّ والغرق بالمسكرات ومغيِّبات الوعيّ.
فكيف يا ترى نجد في اللغة العربية مفردة بديلة عن الدانديّ والداندية، سوى التأنقية و(الدلّولية) التي تعبّر عن بعض مفهوم الداندي الحدبيث، وليس كلها؟
في عامية بلاد الشام (المُغَنْدرة) اليوم هي السيدة التي تضع على وجهها المساحيق والتأنق تكلفاً وتجمّلاً. وهي كلمة من أصل فصيح. في لسان العرب، غندر وغلام غندر سمين غليظ. ويقال للغلام الناعم غندر وغُنْدر وغميدر. ويتوسع تاج العروس قليلاً مشيراً إلى أن غُلامٌ غُنْدرٌ كجُنْدَب وقُنْفُذ. ذُكِر في آخر ترجمة غدر لأَنّ النُّون زائدَة وقال ابنُ دُرَيْد سَمِينٌ غَلِيظٌ. وقال غَيْرُه غُلامٌ غُنْدُرٌ وغُنْدُرٌ وغَمَيْدَرٌ ناعمٌ. ويقالُ للمُبْرِمِ المُلحّ يا غُنْدَر. وهو أَيضاً لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الحُسَيْن بن مُحَمّد أَبي بَكْرٍ البَصْرِيِّ الحافظ المُفيدِ وقال المُبَرِّد لأَنّه أَكْثَرَ السُؤال أَي اسْتِفْهَاماً لا تعَنُّتاً. في مَجْلس ابن جُرَيْحٍ حِيْنَ قَدِم البَصْرَة وأَمْلَى فقال له: ما تُرِيدُ يا غُنْدَرُ فلَزِمَه هذا اللَّقَبُ وغَلَبَ عليه. والغُنْدُورُ كزُنْبُور الغُلامُ الحَسَنُ الشَّبَابِ والعَامَّةُ تَفْتَحُه.
الكلمة إذنْ ضاربة في الاستخدام حتى أنهم ذكروا أن العَامَّة تَفْتَحُها. وأحسب ان الاستخدام الشعبيّ يضيء بدقة المعنى المعجميّ العريض قليلاً، فمن النعومة والشباب الفصحى التي كانت تتضمن، فيما يبدو، الدادندية، يُرْشدنا اليوم الاستخدام العاميّ للدادندية أنها تتضمن وضع المساحيق تَجمُّلاً.
في غندر لسان العربي ثمة مفهوم (التبرّم الملحاح) و(التساؤل الدائب) اللتان تُميّزان، كما لو عبر صدفة سعيدة، الدادنيّ البودليريّ. الفارق في الزمن، يجعلنا نتحفظ بشدة من تحويل مفاهيم الماضي إلى الحاضر.
ثمة اليوم ضرورة لاعادة الاعتبار لكلمة عُندُر الفصحى التي ما زالت مستخدمة في العاميات بتلوين آخر، خاصة عندما نشتغل على بودلير وفوكو كليهما، وإيضاح أفكارهما لأنفسنا أو لمستمعينا، وكذلك لأن كلمة داندي صارت تقريباً من كلمات القرن التاسع عشر الأوربيّ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عباس بشير

    مذهب الداندي في الادب الغربي او نظرية الداندية

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram