TOP

جريدة المدى > عام > جمهور الكاتب خارج الدائرة

جمهور الكاتب خارج الدائرة

نشر في: 15 يناير, 2017: 12:01 ص

هذا موضوع شغلني كثيراً ومنذ سنوات، وعلى التحديد مذ فرِحَ الكتّاب بمعونات الدولة أو صدقاتها. نحن جميعاً بحاجة لها لكن في قطعها عودة لاكتمال الحرية، النسبية، التي نمتلك، حرية العمل وحرية الكتابة. شراء الدولة أو المؤسسة السياسية للكاتب وشل إرادته يتمّان

هذا موضوع شغلني كثيراً ومنذ سنوات، وعلى التحديد مذ فرِحَ الكتّاب بمعونات الدولة أو صدقاتها. نحن جميعاً بحاجة لها لكن في قطعها عودة لاكتمال الحرية، النسبية، التي نمتلك، حرية العمل وحرية الكتابة. شراء الدولة أو المؤسسة السياسية للكاتب وشل إرادته يتمّان بأشكال وصور شتى. هذه واحدة منها.

أنا أديب عملي وواقعي، أرى الكدح مكمِّلاً لإنسانيتي أو لروح النضال اليومي، كما هو مكمل لعملي الأدبي. لهذا أشعر بفرح، كما أراني سعيداً بخروج عدد من كتابنا وشعرائنا الأفاضل من طوق دائرة الاهتمام الأول، الشعر أو السرد أو سواهما إلى المدى الحي خارج هذه الدائرة وكسرهم الطوق إلى المتَّسَع الجماهيري أو إلى خضم الحياة. هكذا هو عمل الأستاذ جاسم العايف في وثائقياته المهمة وعبد الزهرة زكي في نشاطه الإعلامي وطالب عبد العزيز في مجتمعياته وبصرياته وأحمد عبد الحسين في نشاطه المدني المبارك ولطفية الدليمي في ملاحقة الفنون وجماليات الحياة الثقافية ولا يفوتني الشاعر شاكر لعيبي واهتماماته الفنية، وعلي أمين، أبو عراق، في شعبياته وسوى أولاء أخوة وأصدقاء عديدون.
الشعر، أو الأدب، اهتمام أول لهم لكنه لم يجعلهم متبطلين يقتلهم الكسل والجلسات الخاوية، ثمة عمل آخر : إعلامي، إداري، مهني يدوي ..، المهم أن المبدع كسر الطوق ليعمل في دائرة الحياة الكبيرة والأغنى.
البطالة بحجة الإبداع لا يرتضيها الأدب وخارج منطق الحياة. هنري ميللر كان يعمل بأجر و د.هـ. أودن كان يحرر كتبا ويكتب مقدمات ويترجم و ت.س. إليوت كان مديراً إدارياً وثقافياً لدار النشر فيبر اند فيبر ولنا عدد طيب ممن يعملون خارج دوامهم الرسمي في هذه المؤسسة أو تلك وبعضهم في تجارة أو في مكتب.
التفرغ مطلوب والتخصص مطلوب، لكن كلا منهما لا يعني غلق الدائرة وترك الحياة، لنتذمر من بطالة أو عوز ونكتب مللاً ودمارَ نفسٍ وحياة. الملل يستوجب شروعاً بعمل ودمار الحياة يستوجب نضالاً لإنقاذها. في العمل المهني، او الثقافي الأخر، حيوية جديدة وكسب خبرات وتماس بالحياة الواقعية ومفرداتها. وهذا سماد عظيم للكتابة الإبداعية!
مجالات كثيرة متاحة لأي "شاعر" أو "كاتب" قصة، وأنا أعلم أن هاتين الصفتين تبعثان على الابتسام ونحن نقرأ لبعض ممن يتصفون بهما. و سواء كان مبدعاً حقيقياً أو متأدباً، يمكن أن يجد له مجالات لحيويته الطافحة، أو الكامنة. ربما هذه ستكون أفضل وأجدى من الشعر والقصة بالمستوى الذي نراه منه.
وحتى المبدعون أمامهم موضوعات أخرى كثيرة ليبدعوا فيها أيضاً، أن أعمالهم، بقدراتهم وذكائهم وثقافتهم، ستكون أعمالاً متميزة عما ينجزه غيرهم وأعلى مستوى كما ستمدهم هذه الاعمال بمؤونة وخصب لكتابتهم الأدبية.
كل أديب يمكن أن يجد في مدينته موضوع عمل آخر، الأحوال الاجتماعية فيها، تاريخ هذا الزقاق أو ذاك، تاريخ المدينة، شخصياتها الشعبية أو التاريخية أو الوطنية، تاريخ الأحزاب أو نضالها السياسي. فهرسة، دراسة، تصوير، كتابة سيرة لهذا الوطني أو هذا المغني أو الشاعر أو هذه الفرقة الشعبية أو حياة الصيادين وما وقع لهم، الاهتمام بالفنانين أو المعماريين أو الصناعيين وكفاحهم للوصول ... أيما واحد من الأدباء يمكن أن يخرج بكتاب مثير عن الناس في السجون وما في المحاكم الشرعية أو عن البغاء وعن المساجد او عن تجارة المخدرات، عن كنائس المدينة، عن تاريخ صحافتها والشخصيات العلمية. عن الحركة النسوية فيها والجرائم المعقدة والمثيرة وحتى بكتاب عن العاشقات والعشاق القتلى الذين اختفوا بأجسادهم وحبهم عن العالم.هذه مجالات عمل مشرفة ومكملة لحياة الكاتب وأدبه، مثلما هي مكملة لكرامته وجهده الإبداعي. حتى الكتابة الكريمة بتكليف من صحيفة أو مؤسسة ثقافية، هي عمل إضافي مُجدٍ مادياً ومفيد مشرف اجتماعياً وثقافياً. وحتى إذا لم يدرّ مالاً، هو حيوية ثقافية و بديل جيد ومحترم عن التسكع والثرثرة والشعور بالعدمية.
دعونا من دعوات العبث، فقد أثبتت لا قدرتها على الصمود أمام واقعية الحياة ومتطلباتها. في العمل تماس بالحياة، هو عيش آخر، حياة أخرى يضافان لعيشه وحياته. لست غافلاً عن لذاذة الفراغ او الاسترخاء ولكن دوامهُ يجعله مملاً ويمسخ الحياة.
ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع اليوم هو أني أرى جوانب كثيرة من حياتنا مغفلة غير معني بها في وقت تتكرر موضوعات الشاعر أو الكاتب وأنه يدور في عالم يفقد إثارته ويبتذل. هذا عدا الأسف على مرور الحياة بلا معنى. لا أحد يقدم لك المعنى كل، هو نفسه، يعطي حياته معنى!
في مدنكم وقراها وبحرها وبساتينها أو قفارها، في الأزقة القديمة والأسواق والمقاهي وبين الباعة الجوالين والشراة موضوعات تتخللها ومضات جمال وانتباهات ومذاقات خاصة مما تحفل بها تفاصيل الواقع اليومي. ثمة الكثير مما يستوجب الكتابة وهذه كتابات ستكون لها أهمية مستقبلية أكثر مما نظن اليوم.
صحيح، جمهور الشاعر أو الكاتب هم قراؤه، لكن في مجالات الحياة الأخرى وأجوائها جمهور اوسع وأكثر حيوية وحضوراً ينتظرونه. الحياة مهما بدت طويلة هي قصيرة جداً وسنندم على هدر الزمن والتفريط به كسلاً أو بما لا يجدي. هي خطوة جريئة ثم تتوالى مراحل العمل وفصوله، وستجد نفسك قد أكملت عملاً بدا لك ضبابياً أو مستحيلاً! كل شاعرٍ او كاتب يمتلك القدرة على إنجاز عمل محترم! ليكن الأديب رجلَ أدبٍ وحياةٍ ومعنى.
ختاماً، هذا ما قاله روبرت بروانتج ذلك الشاعر المعروف:
حسناً، هكذا تبقى القصة أخيراً،
قدر ما فهمت،
أنت يا روبرت براوتنج تكتب لعباً
حسناً، هذا موضوع جيد لتكتب فيه!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram