ليست مقدمة تمهد لفهم الشعر العراقي في الزمن القريب أو في زماننا. لكنها حقائق اجتماعية نافعة يمكن اعتمادها من أجل رؤية واقعية : إن عديد كتابنا وشعرائنا، ناس فقراء انهالوا من المحافظات وقراها إلى العاصمة.وأولاء موهوبون بائسون كان همهم بالمستقبل وشراهته
ليست مقدمة تمهد لفهم الشعر العراقي في الزمن القريب أو في زماننا. لكنها حقائق اجتماعية نافعة يمكن اعتمادها من أجل رؤية واقعية : إن عديد كتابنا وشعرائنا، ناس فقراء انهالوا من المحافظات وقراها إلى العاصمة.
وأولاء موهوبون بائسون كان همهم بالمستقبل وشراهتهم للنساء وللشرب ولأن يكونوا حاضرين في المدينة –أحزاباً والتزاماً أو صعلكة وإدماناً- يتحركون بهدوء، يجاملون أولاء وأولاء. لكنهم كانوا تحت سطوتين – التاريخ، أي الأدب العربي القديم، والمجتمع المتخلف وانبهارهم بالحديث القادم وتبنيه قناعة لدى بعضهم، وثمة مظهرية بالتمدن والتقدم لدى البعض الآخر.
ولهذا نجد في شعرهم حالتينْ، الشعر الذاتي وهو الأكثر صدقاً والمترعرع حديثاً، والشعر العام أعني الشعر الوطني – شعر الشكوى من الأوضاع المادية أو السياسية – وشعر المناسبات ولهذا صلة واضحة بالسابق، أعني القديم لكنه كما سنرى يختلف قليلاً عنه.
فإذا افترضنا الشعر الثاني، فلن نحتاج لأن ننتظر طويلاً لصيد موضوع. الموضوعات هنا جاهزة دائماً ما دامت سياسة واستياءات اجتماعية. مادامت هناك مناسبات "وطنية" أو "دينية" أو "نقابية" أو حفلاً في جامعة أو منظمة أو اتحاد ...
الشاعر يكتب لنفسه ويريد الكتابة للآخرين . هو يرجو أن يكون مقروءاً في الأكثر ومسموعاً في الأقل لا بتعادنا النسبي عن الشفاهية. ولكي يحقق الحاجتين فعليه اذن ان يقوم بـ"إبلاغ"، إبلاغ خبرة، إبلاغ رد فعل، إبلاغ رؤية، إبلاغ انتباه أو إحساس. بإيجاز. وبحسب إليوت، الشعر يستهدف إبلاغ قصيدة بدون عارضة، إبلاغ الخبرة أو الفكرة اللتين في داخل القصيدة.
تبدأ المشكلة بأن الشاعر والقارئ طرفان مختلفان ومتباعدان والقصيدة بينهما. قد لا تتفق حاجات القارئ أو السامع، وحاجات الشاعر مضموناً وفنا.
حين نحترم الفن الشعري، نقدر محنة القصيدة بين الاثنين . القارئ أو السامع إذا سحبها إليه لأن يستوعبها كما هي. والشاعر إذا اكتفى بها لنفسه ولفنه أولاً وظلت ضمن النخبة، وهنا نسبة تلقٍ أقل عدداً ولكن أفضل. إرضاء الجمهور يتطلب موقفاً خاصاً دائماً على حساب القصيدة. فلكي يزهو الشاعر ولكي يُرضي، يكيّف القصيدة للإرضاء. ولكي يثير لا يستطيع اعتماد المستوى الفكري أو الفني أو الصياغة اللغوية عالية الفن. هو غالباً يعتمد الشأن الاجتماعي. كأن يتحدث هجاء سياسياً أو جنسياً أو تهكماً من هيئة أو حال. وهنا الاستحسان أو الرواج أو التصفيق ليس للفن الشعري في القصيدة ولكنه للشأن الاجتماعي فيها! وهو ما نشهده في المناسبات والتجمعات الجماهيرية...
هذا الاستحسان أو الرضا يمكن أن تأتي به الخطابة أيضاً وكلمة الافتتاح إن أشارت إلى ما يهم المستمعين. وشعراء المناسبات يتلقون ردود فعل متشابهة لما يتلقاه الخطباء لأن المسائل الاجتماعية أو السياسية المثارة واحدة.
لكن هذا لا يرضي الشاعر حتى إذا مارسه. فهو أبقى متطلبه الفني، والرؤيوي والوعي الخاص جانباً. نحّاه بأسف. لقد دفع ثمنا! فماذا يفعل لكي يجد حلاً يرضيه ويرضي الجمهور فلا تهون قصيدته ولا تبقى حبيسة نفسه أو نخبته؟ حصارها هذا أيضاً ليس في صالح الفن وأن كان في جانب منه إبلاغاً وأداء مهمة.
يبدأ اشكال الشاعر من منطلقه. فحين ينطلق من المتطلبات الشعبية يضطر لأن يستمد شكلاً من التقليد الشعبي ومن الاعتيادي لا من الحداثة أو من الجديد. وعلى العكس حين ينطلق من متطلبات الفن والثقافة الفنية.
ثمة طريقة لا تضر بالفن الشعري كثيراً ولا يخسر الشاعر فيها الجمهور. هي أن يتسامى بالشأن الاجتماعي ويجعل منه فناً. وهذا هو ما حاولت جاهدة الواقعية الاشتراكية أن تنجزه فلم توفق إلا قليلاً، ولكنها لم تخسر التجربة. وهذا هو ما يسميه إليوت "بالموقف الخاص" والذي يشكك بإمكان حصوله دائماً كما نرجو..
تقنياً، وهذا يعني أسلوبياً أيضاً، هناك طريقتان: إما أن يكتب بطريقة نثرية سهلة واعتيادية، وهذا ما يرفضه الفن، لأنه لا يتكامل بها، وإما أن يأمل بأن تصبح طريقته الفنية معروفة مألوفة وليس هذا مطلباً سهلاً للجميع.
طموح الشعراء الكبار وما يسعى له الفن هو ان يتمتع القارئ أو السامع أيضاً بروح الفن وبجماليات التعبير ويشارك الشاعر بالتجربة. علينا ألا نخلط بين الشعر الذي نتلقاه ونحن في حالة استرخاء وبين الخبرة الشعرية العميقة .."
في المطولات الشعرية، الملاحم، القصص الشعرية، كما في الرواية، نجد فصلاً يتوسط "التأزم" أو "الجد"، فيه خفة، فيه مكاشفة اجتماعية. وهي وسيلة تقرُّبٍ من الجمهور، فرصة لإيصال المشاعر المبهجة، وإرضاء حاملي الاستياء أو الرغبات الاجتماعية والسياسية أو الماجنة.. في بعض المسرحيات، حتى في مسرحيات شكسبير، هناك فصل كوميدي، مهمته إراحة القاعة وقد تكون له مهمة رمزية، لكنه غالباً يقوم بمهمة إرضاء، أي إثارة الشأن الاجتماعي. الجمهور العام يستمتع بمسرح شكسبير العظيم والعميق ! هو مبهج للعوام ولكنه رامز وعميق للنخبة!
في القدرة العظيمة على الإرضاء وعلى الحفاظ على عمق ومستوى الفن، ترتفع أعمال شكسبير ومثله دانتي ومثله سوفوكلس ومثله أبناء عصرنا من الشعراء الكبار الذين ارتقوا بالمعنى المشترك، لقد تقربوا بأدوات فائقة القدرة على نقل "الإيحاء". هذا يعني أسلوباً ذا صياغات فنية متقدمة وإيماءات ذكية مفهومة. وهنا تواجهنا محنة أخرى هي "أننا قد نخسر الاستعارية" الأكثر ائتماناً على الشعر. وافتقادها يوقعنا بالنثرية في غياب الدلالة الأبعد والموضوع السامي...
هذه المشكلة ليست جديدة. فحين نقرأ فن الشعر لـ هوراس، نجد أنه يقول للخطيب ألا يكثر من الاستعارة ليشد المستمع إليه. ويقول للشاعر لا تكثر من النثر لكي لا يفسد الشعر.
وهذه المسألة متجذرة في الشعر العربي الحديث أكثر مما في القديم. لغة الشاعر القديم هي لغة المستمع العام والمستوى الثقافي، والمستوى الفني، للناس متقاربان. الشاعر الحديث واجه المشكلة وجمهوره مستاء سياسياً واجتماعياً وجنسياً والعيوب كثيرة من السهل أن يعتمدها في الوصول إلى القارئ، أو السامع، لإشعاره بالمتعة والإبهاج أو لإثارة الحماسة الوطنية. لكن هذا عادةً على حساب الفن الشعري وعلى حساب التقدم الثقافي. صارت المهمة اليوم صعبة معقدة بسبب فارق المستوى الثقافي والحضاري – المدني أحياناً بين الشاعر والجمهور وأن الشاعر أبعد رمزية وأبعد عن الحسية على خلاف المتلقي. العديد من شعرائنا ذوي السمعة كانوا يختارون للمناسبات والتجمعات والمناسبات الوطنية أو التكريمية ما يرضي العامة ، ويُبقي واحدُهم الشعر لنفسه ولخاصته أو النخبة. علينا الإقرار بحقيقة، قد يكون صعباً تقبلها بالنسبة لكثيرين. هي: حين لا تكون هناك "ارستقراطية" ثقافية والجمهور العام لا يستجيب، تبدأ مشكلة الشعر! اذكر ان الراحل عبد الوهاب البياتي كان نادراً ما يقرأ في حفل. كان يجلس في المربد وفي المناسبات الأدبية يستمع والناس يقرأون وفي قلبه عدم رضا وأسف! ربما لسان حاله يقول: ، "ليس أصعب من أن يكون للقصيدة وجود خارج أنفسنا.." !
خطورة هذه المسألة التي أثيرها، هي أننا إذا هبطنا بالشعر إلى مستوى المتلقي واحتياجاته وهبطنا بالموسيقى وهبطنا بالرسم، ماذا سيعني هذا؟ سيعني، للأسف، سقوط الحضارة!
هل من قدرة للتعبير عن الهم أو الاحتياج الشعبي ولا نخسر مجد الفن؟ العبقرية قد تفعل ذلك. الناس من كل المستويات الثقافية، كانت تتمتع بأعمال شكسبير ودانتي وكذلك معظم أعمال همنيغوي. ولم يهبط المستوى!