المتحمسون للشعر، كما المفكرون بمدى أهميته أو الذين يهزون رؤوسهم بابتسامة اللاضرورة له. أولاء جميعاً حاضرون في شتى الأزمنة. لكن في الأزمنة الحديثة صار الذين لا يبالون به أكثـر عدداً وأكثـر في أحكامهم حسماً.وأقول "الأزمنة الحديثة" لأن الشعر كان طريقة ت
المتحمسون للشعر، كما المفكرون بمدى أهميته أو الذين يهزون رؤوسهم بابتسامة اللاضرورة له. أولاء جميعاً حاضرون في شتى الأزمنة. لكن في الأزمنة الحديثة صار الذين لا يبالون به أكثـر عدداً وأكثـر في أحكامهم حسماً.
وأقول "الأزمنة الحديثة" لأن الشعر كان طريقة تعبير موجزة ودقيقة ومنغمة. فهو مبعث ارتياح لناس تضعف عندهم وسائل التعبير الأخرى. أبيات شعرية أو تخطيطات بسيطة أو صوت مزمار، أو صيحات أو طبول كانت من قبل تكفي. والشعر كان بين هذه الأكثر حضوراً وهو شفاهي لا يكلف شيئاً.
أيضاً أنا لا أدري مَنْ من العرب هو أول من قال : "الشعر ديوان العرب"، لكن ما معنى ديوان هنا وفي هذه المرحلة من مراحل تطور التعبير؟ هل هو كلام المجلس الذي يحسم الأمور، أم هو سلواهم يجتمعون حولها أم هو مجمَّع أخبارهم وسيرهم؟ لو كان خزين ذواتهم ودواخلهم، لكان ذلك مجداً كبيراً. لكن ما كان من ذلك شعراً، قليل الحجم بالنسبة لحجم ما تركوا من الأشعار التي هي اخبار عيش واحاديث.
وإذا افترضنا أنه جامع سيرهم ومفاخرهم، فهي ليست مهمة ذات شأن فكري، قدر ماهي تاريخ وسير، وهي حكواتية الشعرُ فيها قليل لكن مجموعه كان مهما وحاجة ثقافية.
وإذا تركنا عالمنا هذا وذهبنا إلى قول شيللي بأن الشعراء هم مشرعو قوانين الحياة غير المعترف بهم، نجد تفخيماً لهذه المهمة بقصد تفخيم الذات، كونه شاعراً يرى نفسه بهذا الحجم وهذا الفعل. لكن أفلاطون قبل شيللي، ألغى هذا الدور وأخرج الشعراء من جمهوريته. وبين هذين الحكمين، المتبجح والمستاء، نجد أن إليوت وأودن يصفان الشعر بأنه لعبة Play! ربما كان إليوت يلاطفنا وأن الشعر في رأيه الحقيقي أكثر جدية من كلامه الان عنه. ومجمل عمل أودن وآرائه النقدية لا يدلان على ذلك التساهل.
بعيداً عن التبجح والتعسف أو التواضع، الشعر فن لغوي حاضر في الأزمنة ويتطور بتطور المجتمعات وبمظهريات مختلفة: مرويّات متداولة وقصائد مسموعة او مغناة أو مقروءة. ولنا فلاسفة نقاد معنيون بديناميته وأشكاله ومضامينه، بل سعوا لتعليمنا بجوهره وقالوا بالشعر وبالشبيه الهيّن له. الدين رحب بالشعر وإن أبدى امتعاضاً مؤقتاً ربما خشية الاتهام بالمشابهة. ورحب به البلاط والحكومة لحاجتهما له ورحب به المأزومون يريدون به إعلان حاجتهم بلغة خاصة مؤثرة بأعاريضها وقوافيها.
لكن هذه ليست مهمات فنية دائماً، الشعر ليس وسيطاً بأجر أو خادم قوم. هذه المهمات سقطت في اتساع مفهوم الفن واتساع المطلب الثقافي. لقد برم الشعر، فن الشعر، بالخارج وأوغل في عالمه الذي لا يرى ليعلن ما لم يره أحد. وهذا ما ابتدأ به بوضوح أكثر "أدجار ألن بو" ومن ترجمته إلى الفرنسية ابتدأت الحداثة وظهرت الرمزية والصورية وحتى شعر اليوم الذي خلع أثوابه الخارجية القديمة من أوزان وقواف. وصار الانتباه لا إلى الايقاعات القديمة وانضباطياتها ولكن لمضامينه. كما ابتعد، في الجيد منه، عما هو عابر إلى الرؤيا والحدس والتماس السري مع ما هو بعيد مخفي وأزلي.
وهنا اتضح انقسام "مجتمع" الشعر إلى فئتين، السواد الأكبر والنخب ذوي الثقافة الفنية والوعي الجديد. للأواخر القراءة والتأمل ولأولئك السماع. سماع ماذا؟ وما الذي يهمهم مما يسمعون؟ إنهم يستمعون إلى ويهتمون بـ شأنهم الاجتماعي: استياءات أو عيوب دولة وسوء حكم، إثارات جنسية ومفارقات اجتماعية واخلاقية. هذه هي التي تثير شهيتهم في حال واستحسانهم ورضاهم في حال وتصفيقهم طالبين من الشاعر المزيد من الكشف، من الفضح، من التهكم أو التحريض ... هنا أخذ الشاعر دور الخطيب فما يقوله مثير سواء قيل "شعرا" أو قيل خطبة.
شتم الأوضاع السيئة والازدراء بها وكشف العيوب الاجتماعية وذم المرأة أو التغزل "الفاضح" بها .. هذه كلها مثار رضا ويقابلها ارتياح وقهقهات أو هزّ رؤوس وتصفيق. تصفيق للشأن الاجتماعي في القصيدة وليس للفن الشعري فيها !
كل الشعراء "الوطنيين" أو "الساخرين" أو الغزليين ... تحتاج لهم الناس يعبرون عن متاعبهم، همومهم أو رغباتهم المكبوتة التي ينتظرون أحداً يقول بها. وهكذا شعراء أيضاً تحتاج لهم وتريدهم الحكومات والحكام للتستر بمدائحهم ولتمجيد صلاح حكمهم، ولأسباب مماثلة تحتاج لهم الكنيسة ويريدهم أصحاب المذاهب الدينية والأحزاب لمناسباتهم..
السؤال الان :
هل نحن ضد هذا النوع من القصائد والأشعار ومع أولئك المنعزلين الذين يتحدثون عن الروح والجمال ومهمتهم الكشف عن الداخل وعما لا يُرى؟
في الثقافة الفنية نحن مع أولئك القريبين من أنفسهم وفنهم وجوهر الحياة. ومن نراهم بعيدين عن المناسبة والزحام. وفي الوقت نفسه لسنا ضد أولائك الحاضرين في التجمعات من ذوي الهموم اليومية، ومتاعب السياسة والعيش لكننا نرغب بأن يكون هؤلاء شعراء مثقفين فنياً وفكرياً يجمعون المهمتين ويمنحون موضوعاتهم أبعاداً تُبقي شعرهم، بعد زوال المناسبة، شعرا! لا تقل لي الشاعر مسؤول وطنياً ويؤدي للناس مهام. عفواً، الشاعر مسؤول عنهم وعن فنه أيضاً ما دام يصنع عملاً فنياً.
ولا اعتراض إذا كان الأداء "نظماً" .. الشعراء ودارسو اللغة العرب قالوا بالشعر وقالوا بما هو منظوم وليس شعراً. وكما اليوم، ليس كل ما هو مكتوب سطوراً متباينة الطول شعراً .. غالباً ما نقرأ كلاماً عادياً كتب بشكل شعري. وقد نقرأ ونسمع نكاتاً ومفارقات وطرائف..، كلنا مسؤولون عن الفوضى والاستسهال واختلاط المفاهيم..
نعود إلى الإسهام الاجتماعي، أو الوطني، أو السياسي مما يهتم به الصنف الأول من الشعراء، لأجد مناسبة وأقول : إن شعراء الأحزاب غالباً هم الأقل انضباطاً وصبراً. التنظيمات الحزبية تعرف ذلك. وإذا ما كانوا "محظوظين" وتولى الحكمَ الحزبُ الذين الذي كانوا دعاة له بأشعارهم، فسيكون لهم ذلك الزمن أسوأ الأزمنة وسيكونون من أوائل ضحاياه أو الضجرين منه وسيبدأ التذمر وتبدأ الانشقاقات والهرب "الانتفاعي" للخصوم.
خسارتهم للحرية ستكون فاجعة ومعها خسارتهم للفن. شعرهم بعد انتهاء الموسم، قد يظل لطلبة المدارس وجلاس المقاهي وهو شعر لا قيمة كبيرة له. في زمن الثقافة والفن نبحث فيه عن الشاعر الرائي وعن القصيدة التي تصلنا بالجوهر، وتحفل بأبعاد وانتباهات العقل الإنساني وتصلنا بالحياة كما هي حياة لا سلعاً وأسماء وحوادث.
لكن يظل السؤال : لماذا يكتبون قضاياهم أو عيوبهم الاجتماعية واستياءاتهم، من الدولة أو الحاكم، نظماً والنثر أكثر إيضاحاً ومباشرة؟ هل لنمرّر الفحوى عبر أبهاج المستمعين بالتحولات الصوتية؟ هذا يعني توظيف الأدوات الشعرية لغير أغراض الشعر! أم لأن النثر يصيب بالملل بينما النظم بالأوزان والقوافي يجعل الكلام حياً ومبعث نشاط؟ حسناً، ولكن القصيدة المطلوبة عمل فني! وهذا ليس فناً؟
ورب قائل يقول : أما أسهم شعراء وطنيون في بناء وطنهم وفي تغيير أحوال مجتمعهم؟ أقول : نعم، وكان يمكن أن يؤدي الخطاب النثري هذه المهمة أفضل وأدق، شرط الحماسة والجرأة.
الشعر الذي دعونا إليه، وندعو له هو الذي يجمع المهتمين، الشأن الاجتماعي والوعي الفكري معاً وفن كتابة القصيدة. هذا الشعر هو الذي يبني مجتمعاً ويسهم في التقدم، تقدم الشعر والفن والحياة.
إن أحداً لا يستطيع القول بأن شكسبير وملتن ووردزورث لم يسِموا الشخصية الانجليزية بدرامية أو سمة تأملية أو بمذاق وما يزال لهم أثر في سلوك الناس والحياة. أو أن ثقافة البلاد لم تغتنِ بفنهم ورؤاهم وأن الأثر الثقافي لفطاحل الشعر الانجليز مازال واسعاً ويتسع! وهو هذا الشعر الذي يجمع المهتمين، الحال الإنساني والفن!
قد يشير ناقد أدبي، أو مهتم بالشعر، بأن شعراً مثل هذا الذي نتمناه سيكون لبضعة أفراد، في الأكثر لقلة مختارة من الناس. هو نوع من البيروقراطية والجواب هو أن شعراً يؤكد على طبيعة الفرد والخبرة وعلى الإنسان ودراما الحياة، يخالف هذا الرأي. هو شعر رفيع، سامٍ، للجميع. والمسعى المطلوب من الكلام هو : لتمكين الناس من الجديد، لا أن نبقيهم في "المتحف القديم".. نحن نعيش في عصر تحاصر اشتباكاته ذات الإنسان وفردانيته. نحن في هذا العصر بإزاء حركات سياسية تعتمد أيديولوجيات. واشتباكات مصالح يضيع فيها الإنسان أو يضحي مرغماً أو يُقتَل أو يُسحَق يومياً. فما عادت المسألة حاجة أو تجارة أو مرض، هذه تهون أمام أيديولوجيات متوحشة أو مدمرِّة لاغية لانسانيتك، وبأسلحة فتاكة، بعنف جماعي ! لقد تجاوزنا السوء القديم: حاكم رديء، ظرف طارئ صعب، عيب اجتماعي، تركناها للنثر وكتاب المقالات وذهبنا إلى هموم مضاعفة أعمق واكبر، إلى ما هو أكثر دماراً للإنسان. روحاً وعيشاً يومياً ومستقبلاً. الكتابة اليوم عن الإنسان مضاعاً، محاصراً، مهدداً بالقتل، خاضعاً للاستغلال الشرس الأعمى. مهمة الشعر غير مهمة الحزب السياسي أو المجتمع المدني أو ... خطيب المناسبة. الشعر يتجاوز هذه ليحمي الأبعاد الإنسانية والجمال والمعنى. نعم الشر والخير في المجتمع يستدعيان الكلام، الثناء أو الهجاء. لكننا اليوم بصدد إعادة إدراك للمفاهيم الولائية والوعي بالأحاسيس الصعبة وبتراجيديا الفرد في هذه الحياة ثم في هذا الكون. وهذه تعني ملايين الحيوات الفردية المستاءة أو المُذكِرة أو الراغبة بوجع. ستكون هذه ضمن الفن حين يتسع وتبعد اضواؤه المستكشفة إلى داخل الإنسان والحياة. وهذا سيكون عملاً للجميع، عملاً للإنسانية الكبيرة! لا لمداواة خطيئة دينية ولا لإبهاج متعصب سياسي أو قومي مما في هذا اليوم. المحنة محنة الإنسان ومحنة الشعر لا بمواصفات الخارج الضيق ولكن بمواصفات الإنسانية المحاطة بالتهديد والإنسان المستلب والمسرات التي لا طريق لها. الشعر، فناً، للأرواح كلها وللحاضر والمستقبل.
وهنا يأتي شعرنا الحديث، هو لا يحمل صخب الخطيب وتمثيله الذي نادراً ما يخلو من صفات تهريجية. شعرنا قد لا يكون مشرع قوانين كما يريد شيللي ولكنه ما يزال قادراً على إنقاذ أرواحنا، ولنعترف بأن ليس لنا سواه! الاستهانة به وتسخيره لمهمات يومية عابرة وخدمات آنية يدعوان للسخط كما يعنيان العودة به للخدمات القديمة وهو ما يحزن الثقافة والعالم وما وصل إليه.