أية لغة كانت، هي لغة للتخاطب. هي كلام. ولأننا نتكلم اللغة، لا نفكر بتراكيبها أو شروط قواعدها. نحن نتكلمها كعاداتٍ لغوية، لكن حين نكتب لا تبقى اللغة بتلقائيتها. ثمة تفحّص وانتقاء وتغيير في مستوى اللغة " الآلي"، نظام التركيب، وتغيّرَ مستواها الفن
أية لغة كانت، هي لغة للتخاطب. هي كلام. ولأننا نتكلم اللغة، لا نفكر بتراكيبها أو شروط قواعدها. نحن نتكلمها كعاداتٍ لغوية، لكن حين نكتب لا تبقى اللغة بتلقائيتها. ثمة تفحّص وانتقاء وتغيير في مستوى اللغة " الآلي"، نظام التركيب، وتغيّرَ مستواها الفني نتيجة لذلك.
اللغة في الكتابة تركت وراءها الكثير من عفويتها أو "شوائبها". وحضرت "نظيفة" . وحين نكتب أدباً، عملاً فنياً، مثل الشعر أو الكتابة عن الجمال أو وصفه، في لوحة أو في فيلم أو في مقطوعة موسيقية، نستحضر لغة مختارة، مصطفاة لما نريد الكتابة عنه. لا أعني فصحى أو عامية، أعني فصحى مصطفاة أو عامية مصطفاة، لأن العامية كلام أيضاً ومعنى هذا انها لغة!
ابتداءً، الصياغات عمل فني. الصيغة اللغوية الجديدة انجاز مُبْتدَع. الصياغات في عمل أدبي وحدات في منجز فني. ابتعدت عن صياغات الكلام العادي، أي عن أنماطه patterns . فنحن نؤثر في نظام النسيج الاعتيادي، فتأتي العبارة وقد أحدث الكاتب او الشاعر تغيّراً في مظهريتها الكلامية. وهذا التغيّر أحدث تحولاً في دلالة المفردات جزئياً وكلياً أحياناً.
معنى هذا ان هناك "ثقافة" فنية لصناعة لغة الأدب او كتابة النصوص – من أبسطها الواضح لدينا التقديم والتأخير والاضمار والحذف والاستعارة .. عرفنا هذه وسواها في نماذج البلاغة أو الكتابات الأدبية التي نقرأ وكما تتضح أكثر في الكتابة الشعرية.
هنالك ما أسمح لنفسي بتسميتها "الأقليات" المهنية او الحرفية وأعني بها مجتمع الأطباء او العاملين في المختبرات...الخ. لهؤلاء "لغتهم" التي اصطفوها او التي تآلفوا معها أو قل التي تملّكوها لغة لهم وما عادت لغة للتخاطب العام. هي بعض من أحوال اللغة التي تنتج من دوام العزلة عن الاعتيادي.
والأكثر خطورة هي اللغة في الفلسفة. فاللغة في الفلسفة التحليلية ليست لغة التخاطب، بل هي هدف للبحث الفلسفي. هي موضوع، حتى صار تعريف الفلسفة التحليلية بأنها مدرسة فلسفية معاصرة تتخذ من دراسة اللغة موضوعاً لها ..." وقد استوفى هذه الموضوعة الأستاذ بشير خليفي في الفلسفة وقضايا اللغة..".
ومن الدروس الأساسية التي تلقيناها في علوم اللغة linguistics : هي ان اللغة بكل تنوعاتها واختلافاتها، وأية لغة، هي كلام Language is speech . ولهذا تكاثرت الدراسات في قضايا لغة الشعر ولغة الأدب بعامة مثلما صرنا نشهد ما تفعله كثرة الاختصارات في "لغة" "الجماعات" او "التخصصات" وكما رأينا الفلاسفة وضعوا اللغة في موضع اهتمام آخر ولم يكتفوا بأن تكون حالاً لغوية خاصة بأجوائهم او "بيئتهم" العملية. ويمكن ان نشهد مثل هذا التحول في لغة الفقهاء وأهل المنطق.
سؤالنا بعد ما ذكرناه من تفاصيل: هل تبقى اللغة بعد الصياغات الجديدة والخاصة هي اللغة نفسها؟ هل ندعي إن كنا خارج أجواء الأدب، بأننا نفهم اللغة الأدبية كما يفهمها ناسها "الأدباء"؟ وهل نفهم لغة العاملين في البيولوجيا (الذين يسمون أنفسهم، بيو!) أو لغة العاملين في المختبرات او الأطباء، بالدلالات نفسها التي اتفق عليها ناسُها؟ حتى لغة العلوم لا تظل كما هي لغتنا! فكلمة تعجيل في الأدب وفي الكلام العامي شيء لكنها في الفيزياء شيء آخر. في الفيزياء لها تعريف وقانون حسابي معروف. ولهذا لا نعجب من ان مشكلة جديدة حصلت في لغة الفلسفة او في لغة الشعر، أعني في طبيعة اللغة وانها الآن ليست للخطاب العادي المألوف. لقد تغيّرت مُعجماً ودلالات!
وصل الأمر حدّاً أننا نمتلك معاجم زراعية وطبية وسياسية وفنية. مصطلحات جديدة تبلورت من مفردات الخطاب اصلا. وصار التحليل الفلسفي يصبو الى لغة "اصطناعية" تصطنعها طبيعة وضرورات التحليل الفلسفي، احتياجات العاملين في هذا الموضوع او هذه "البيئة"، جعلتهم يطالبون بلغة تتأسس على الرمز لأجل دقّة التعبير وتفادياً للأخطاء... فريق آخر منهم يرجّح استعمال اللغة العادية في التحليل لأنها مفهومة ومتّفَق عليها وهي في رأيهم أساس التواصل اليومي حيث يستخدمها الإنسان لنقل أفكاره للآخرين..." هكذا إذن صرنا أمام واقع لغوي متغيّر واختلافات، بحسب المتحدثين بتلك اللغة وبحسب احتياجاتهم منها لحياتهم العملية.
ظاهرة جديدة نتجت في هذه "الاوساط" اللغوية وهي ظاهرة مهمة ستكون لها آثارها في المستقبل - تلك هي ان "الكلمة" يمكن ان تعمل خارج السياق مثلاً حين يقول الكيميائي لمساعدهِ: "اثيلين" : او يقول البنّاء لعامله: طابوقة او حين نقول في الأدب او الفــــن: كلاسك.
نحن نعلم ان اللغة في الشعر تعمل بالحدس والإيحاء وتعمل لسياقات ما عادت عاملة في الخطاب اليومي. هنا سياقات عليها ظلال غرابة او أثر الصنعة، أو هو التجديد في الصياغات، لا تعليق لي الآن ولا حسم. بينما في دائرة المنطق العقلي يُعتمد الاستنتاج والبرهان والخبرة. وفي الاثنين لدلالة المفردات حدود مقننة. المفردة ليست لها حرية الحركة كما في الأدب وبخاصة الشعر .. لا حدس هنا ولا إبهام ولا استعارة!
إذن اتضح البُعد عن لغة التخاطب الاعتيادي. نحن الآن نمتلك لغة متعددة المستويات والصور والدلالات. فهل نستغرب إذا ادّعى شاعر وقال: " انا لي لغتي الخاصة"؟
إذن أهل القانون اليوم والعلماء والعسكر، والفلاسفة، صارت لهم "لغاتهم" غير المشابهة للغة التخاطب اليومي والمختلفة عنها دلالات واحياناً صياغات بنائية. هي محاولة لحماية مضمونهم مثلما هي محاولة رد اعتبار لخصوصيتهم. تتمثل هنا الخصوصية بامتلاك ما يميّز خطابهم. كما ان الأقليات القومية، تعتز بلغاتها لأنها الأدق تعبيراً عن مكنوناتهم. الفرق ان لغات الأقليات القومية، هي لغات مختلفة اصلاً لا أحوال لغة واحدة.
ظاهرة ، ما أسميناها "اللغات الخاصة" او أحوال" اللغة في التجمعات المهنية او الحرفية او العلمية...، ظاهرة تتأكد وربما تتنامى. هي ليست لغتنا دائماً، اعني في جميع أحوالها ... فهل نمنع تلك التجمعات من امتلاك خصوصية لغة حالٍ مختلفة عن لغتنا أم نحاول نحن التقرب منهم ومشاركتهم؟ لا أظننا نفعل ذلك، فقد نحتاج الى مَن يشرح لنا ويترجم" المقصود من هذه العبارة أو من تلك وخيرٌ للجميع ان يُعنى كلٌّ بحال من أحوال اللغة يخصه. وأرى ان مجموع هذه الأحوال سيعمل على تطوير اللغة الأصل، أو اللغة الأم، وهذا ما يُفـــرِح!