شاءت الصدف أن التقي قبل أيام، مستعرباً روسياً في الساحة الحمراء، لدى الاحتفال بانضمام القرم الى روسيا. وهذا الحدث، أي اهتمام الروس بأمجادهم في القرم، التي كتب عنها بوشكين وليرمنتوف وتولستوي، لم يشغل بالي، قدر ما شغله تذكّر صاحبي كيف جاء عازف العود ال
شاءت الصدف أن التقي قبل أيام، مستعرباً روسياً في الساحة الحمراء، لدى الاحتفال بانضمام القرم الى روسيا. وهذا الحدث، أي اهتمام الروس بأمجادهم في القرم، التي كتب عنها بوشكين وليرمنتوف وتولستوي، لم يشغل بالي، قدر ما شغله تذكّر صاحبي كيف جاء عازف العود العراقي الفذّ، منير بشير الى موسكو، في السبعينيات وأقام في فندق "روسيا" الضخم المجاور للكرملين.
وكان هذا المستعرب، مرافقاً ومترجماً، له لدى حضوره المهرجان الموسيقي الدولي بموسكو.
وقد تذكر المستعرب ذلك، حينما مررنا بفندق "روسيا" الذي تحول الى أطلال، لأن بلدية المدينة، اعتبرت هندسته المعمارية غير متناسبة مع الأبنية التاريخية المجاورة. وقررت هدمه وتحويله الى متنزه تقام فيه المؤسسات الثقافية. فوقفت على الأطلال وتذكرت قصيدة أمرئ القيس " قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل" ، وجال في خاطري، أن الشاعر كان على حق في وقوفه على الأطلال التي تعيد المرء الى أيام، ربما نسيها بمرور الأعوام . فلابد من تذكر منير بشير، هذا المبدع المجدّد في الموسيقى الذي حاول تقريب الموسيقى العربية من الموسيقى الكلاسيكية الاوروبية من دون أن يدمر أسس المقامات العراقية، وحافظ على الخصوصية المميزة للموسيقى العربية.
تعرفت على منير بشير عندما كان في معهد الفنون الجميلة، حينما كان طالباً لدى الشريف محيي الدين حيدر، أحد كبار عازفي العود في العراق، ومدير المعهد آنذاك . وقد أحبّه الطلاب لدماثة خلقه واجتهاده ولهجته المصلاوية الأصيلة التي غلبت عليها فيما بعد اللهجة البغدادية. كما عرفت أيامذاك، شقيقه الاكبر جميل وشقيقه الأصغر عازف الكمان، فكري بشير، الذي درس في كونسرفتوار موسكو وربطتني به أواصر صداقة حميمة. فهذه العائلة وكبيرها والدهم بشيرعزيز صانع وعازف العود المعروف في الموصل، قدمت خدمات كبيرة الى فن الموسيقى في العراق، لكن يبدو أن العراق قد تنكر لها، فلا يوجد اليوم، ما يذكر الجيل الجديد بها.
إن منير قد وافاه الأجل في بودابست، ويعيش فكري الآن في السويد. وربما لا يوجد أثر للأسرة في العراق.
زار منير بشير موسكو مرات عدة، وفي المرة الأخيرة التي جلست فيها معه في فندق "روسيا" كان مسروراً جداً بالاستقبال الحار الذي لقيه لدى جمهور موسكو في في الحفلات الموسيقية العديدة التي أقامها هنا. وأبدى دهشته لتقبّل الجمهور الروسي للموسيقى العربية، وتقاسيم رست وسيكا وحجاز كار، لكونه – أي الجمهور - اعتاد على سماع الموسيقى الكلاسيكية العالمية. وقد أهداني منير، آخر صورة له وهو يعزف على العود، وسمح لي بأن أسجل في مفكرتي بعض أقواله حول عمله الابداعي، بغية نشرها لاحقاً. لكن للأسف، مضت الأيام، ولم أجد الفرصة لنشرها وعثرت عليها في الأرشيف بالصدفة.
تحدث منير بشير، عن وجوب المحافظة على الموسيقى الكلاسيكية، التي تواجه زحف الموجات الهابطة والرخيصة لما يزعم بأنه موسيقى حديثة. إن السامع يتعامل مع الموسيقى الكلاسيكية، باعتبارها تجّسد الاخلاق والحضارة.. ومن الضروري الحفاظ على هذا التراث الموسيقي الإنساني العريق والراقي.. من ناحيتي التأليف والتكنيك، والعصر والزمن الذي خلقت فيه هذه الموسيقى. الموسيقى الكلاسيكية نتاج حضاري راق، يجب أن يلعب دوره في المجتمعات اليوم.. ويجب الاستمرار في التعايش مع هذه النتاجات.
وقال: لابد من الإشارة الى انفصال شخصية الشاب وحالته النفسية اليوم عن نفسية مؤلف الموسيقى الكلاسيكية الاوروبي. إن الشاب في زماننا الذي يعيش في عصر تزدحم فيه المعارف التكنولوجية وتتسابق فيه الاختراعات التقنية، يقع تحت تأثيرها ويبتعد عن الجو الرومانسي الذي خلقت فيه هذه الموسيقى من قبل ملحنين عاشوا في زمن يختلف كلياً عن اليوم.
حقاً أنا رأيت تقنيات عزفية راقية ورائعة لعازفين شباب، لكنها خالية من الاحاسيس الرومانسية. وهذه مسألة تجب معالجتها أيضاً، حيث لا ينبغي الابتعاد عن جوهر الموسيقى. أنا أعلم أن هذا صعب، لأننا لا نستطيع أن نجعل الشاب يرجع الى الأطر الاجتماعية والبيئوية للحقب الماضية. لكن مع هذا أن الانسان ما زال يتمتع بجمال الطبيعة وضوء الشموع والقمر وعبير الورود ويعشق الجمال.
والمهرجان الحالي فرصة مناسبة الى الدارسين في حقل الموسيقى الكلاسيكية للاندفاع قدماً الى امام في مجال العزف. إنه مهرجان لعرض الانظمة التعليمية المختلفة .. والمهرجان مدرسة تربوية واستكشاف جديد في حقل تعليم الموسيقى... والاطلاع على أفكار المربين في مجال الموسيقى في العالم.
وقال منير بشير، إن عرض الحفلات الموسيقية في وسائل الاعلام السوفيتية، يعتبر بحد ذاته، ثقافة عامة للمجتمع الذي يحتاج إليها اليوم في حياته، حيث تسود الشارع الفوضى وضجيج السيارات وصوت الطائرات وتلوث البيئة. إن الانسان بحاجة الى التأمل الذي توفره له الموسيقى الانسانية التي تأتي من خلال المؤلف معبرة عن حالة إنسانية معينة في مختلف انحاء العالم. ومهرجان الموسيقى المقام بموسكو حاليا يعطي الانطباع، بأن الموسيقى هي لجميع البشر وليست حكراً على أحد. لذا فإن الروسي والامريكي والعربي والصيني والافريقي، هم اصحاب وشركاء في الاصغاء الى الموسيقى. وإن اية موسيقى جيدة، هي موسيقى للإنسان أينما وجد. والدليل على ذلك، أن عازفين غير اوروبيين، عزفوا لمؤلفين اوروبيين، وفازوا على الأوروبيين انفسهم. فالعزف الرائع والجيد يتجاوز كل حدود بين البلدان.
وذكر منير بشير، أن قيام عازفين شباب عرب، بالتعامل مع الموسيقى الاوروبية، هي بادرة جديدة وفريدة، تحتاج الى وقفة تأمل وتنفي ما يقال أن العازف غير الاوروبي لا يستطيع عزف الموسيقى الاوروبية. لقد اثبت العرب الذين شاركوا في المسابقات الموسيقية الدولية، أن لديهم قدرات موسيقية وذهنية ثقافية لا تقل عن أيّ اوروبي. وأنا سعيد أن أرى طلابنا العرب من العراق وسوريا ولبنان، يحتلون مواقع في هذا المهرجان الموسيقي الصعب. وأنا واثق، بأن المستقبل سيسلّط الاضواء على الفنان العربي ويعيد الاحترام له بصفته خرج من منابت حضارات رائعة وثقافات إنسانية عظيمة في التاريخ.
وتحدث منير بشير، عن دور الفنانين السوفيت في تأسيس مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد، وفي نشر المعارف الموسيقية واساليب العزف. وقال، إن دورهم قد أسّس المدرسة وقواها وأعطى مفاهيم جديدة في مجال تعليم الموسيقى، وجعلها مشاعة في اوساط الشعب. لكنه أشار الى عدم امكانية المزج بين الموسيقيين في مختلف البلدان، فهناك خصوصية وطنية لكل ثقافة. وإذا فقدت الموسيقى هذه الخصوصية، أصبحت لا تعني شيئاً. لكن هذا لا يعني أن تصبح الموسيقى متقوقعة على نفسها، باستثناء الفولكلور.
وأنا اقدم الموسيقين العراقيين بشكلين: الشكل الأول، هو المحافظة على التراث الموسيقي العربي واستخدام بعض التقنيات الموسيقية المأخوذة من الموسيقى الاوروبية وغيرها فيه. والشيء الثاني، هو أن ما أقدمه أنا من موسيقى مبنية على مقاماتنا، لكنها من تأليفي وعطائي، يتأثر أيضاً، بما اكتسبته في مسيرة حياتي الموسيقية ودراساتي وتجوالي. انها موسيقى معاصرة تعيش حياة العصر وتعبر عنه لكنها لا تشوّه معنى الموسيقى العربية. وعندما يستمع الجمهور الى عزفي يعتقد أنني أعزف موسيقى اوروبية. لكنه لا يعرف أن الموسيقى العربية الاسلامية بالذات، فيها من الزخارف والتأملات ما لم يعرفه أحد في العالم حتى الآن، بسبب انتشار الأغاني الرخيصة والمستهلكة في الأفلام والإذاعات والملاهي الليلية.
في الماضي حين كان يولد طفل، تأخذه المربية الى البادية، ويشترط فيها أن تكون جميلة الصوت. وهذا يعني أن تقييم المجتمع العربي للصوت الجميل في تلك الفترة يتسم بأهمية في تربية الطفل. وقال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، إذا أردت أن تعرف مدى رقي أمة، فاستمع الى موسيقاها. ونحن اليوم نؤمن بهذه المقولة التي تنسجم مع كل زمان ومكان. ونصبو الى أن تصبح الموسيقى عنصراً مهماً وفعّالاً في بناء المجتمع العربي. ونحن نقوم بذلك عبر المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية، ودائرة الفنون الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة والاعلام، في العراق والمجلس الدولي للموسيقى في اليونسكو. زدّ على ذلك، إننا نؤمن بأن الموسيقى، تمارس دوراً مهماً في التقارب بين الشعوب. وأنا طرحت هنا بموسكو في لقاء مع وزير ثقافة اذربيجان، فكرة تأسيس مركز للدراسات الموسيقية المقارنة للمقامات الشرقية، يكون له فرع في بغداد وآخر في باكو. لأن المقامات تنحدر من عائلة موسيقية واحدة. كما سنؤسّس في بغداد، مركزاً لموسيقى الطفل في مدرسة دار السلام ببغداد. وبعد انعقاد المؤتمر والمهرجان بموسكو بمشاركة مندوبي 46 دولة، سيقام في العام المقبل، مهرجان موسيقي مماثل، في بابل بدعم اليونسكو. سيكون أشمل وأوسع من السابق، لأن بابل تمثل رمزاً حضارياً عظيماً بشرائعها وعلومها وفنونها.
وقال منير بشير، إنه زار متحف غلينكا الموسيقي بموسكو، الذي يمتلك اكبر ارشيف للآلات الموسيقية، وقدم محاضرة عن المقام العراقي وعلاقته بالمقامات السائدة في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي والتي جاءت من العراق الى هناك في اثناء الفتوحات الإسلامية.