( 1 )لم أتحمس كثيراً لكتابة هذا المقال، بعد اطلاعي على موضوع لزهير شليبة، وجدته يفتقد بعض الأمانة، مستبعداً أن يكون هذا عمداً، لأن ذلك قد يمسّ في النتيجة أيقونة الرواية العراقية، غائب طعمة فرمان، الذي نُجلّه جميعاً. لكن إلحاح بعض دارسي الرواية العراق
( 1 )
لم أتحمس كثيراً لكتابة هذا المقال، بعد اطلاعي على موضوع لزهير شليبة، وجدته يفتقد بعض الأمانة، مستبعداً أن يكون هذا عمداً، لأن ذلك قد يمسّ في النتيجة أيقونة الرواية العراقية، غائب طعمة فرمان، الذي نُجلّه جميعاً. لكن إلحاح بعض دارسي الرواية العراقية على ذلك، بعد اطلاعهم على حيثيات الموضوع، جعلني أفعل هذا، وهكذا كان هذا المقال القصير.
تعود البداية إلى ما قبل إنجاز اطروحتي للدكتوراه في جامعة أكستر بالمملكة المتحدة عام 1983، التي كانت قد ضمّت، وكما نُشرت في كتاب بعد ذلك، ملحقاً بأربعة حوارات أجريتها مع الروائيين الرئيسين في دراستي، أحدها مع فرمان في موسكو عام 1982. في حواري ذاك، المسجل صوتياً، قال لي فرمان، إن شخصاً آخر في موسكو أو في أحد بلدان أوروبا الشرقية، لا أتذكرها، يقوم بدراسته، وواضح أنه كان يشير إلى زهير شليبة، كما سيتبيّن فيما بعد. الأهم من هذا أنني في ذلك الحوار سألت فرمان عمّا رأيته من علاقة لروايته "ظلال على النافذة" برواية وليم فوكنر "الصخب والعنف"، فأجاب: "يجب أن أقول بأني أفاجّأ بهذا السؤال. أنا قرأت فوكنر ولم تعجبني (الصخب والعنف)، بينما أعجبتني روايات أخرى له غير هذه. أما أن تكون "ظلال على النافذة" متأثرة بـ(الصخب والعنف)، فهذا شيء غريب جداً". وعندها عرضتُ عليه تفاصيل ما كنت قد هيأتُه مسبّقاً، قائلاً له، إنها كانت "في خطوطهما العامة وفي الشخصيات، فالأم والأب في (الصخب والعنف) يقابلهما الأم والأب في (ظلال على النافذة)...؛ (كادي) في "الصخب والعنف" وهروبها وسقوطها تقريباً وكونها مركز الرواية، تقابلها (حسيبة) وهروبها وسقوطها تقريباً؛ (بنجي) المعتوه الذي يفقتقد (كادي) ويتذكرها ويشم رائحتها في كل شيء، يقابله (فاضل) وبساطته العميقة وافتقاده لـ(حسيبة)– زوجته هنا طبعاً– وكل شيء يذكّره بها، وهو نفسه قال إنه يشمّها ويتذكرها في كل مكان؛ (كوينتن)، كونه الأخ الدارس في الجامعة والعلاقة غير الطبيعية بأخته (كادي)، يقابله (ماجد) الأخ الدارس في الخارج وذو الأفكار التي قد تبدو غير سوية تماماً تجاه زوجة أخيه...؛ (جيسون) في "الصخب والعنف"، الأخ الوصولي الذي لا تهمه غير نفسه وتحقيق ما يريد، ثم شعوره، إضافة إلى ذلك، بأنه ضحية عائلته، وما ينتج عن ذلك من حقد على ابنة أخته، يقابله، في "ظلال على النافذة"، (شامل) الأخ الوصولي الذي لا يهمه إلا كيف يصعد، وشعوره هو الآخر بأنه ضحية عائلته، وحقده على زوجة أخيه. بقيت الزنجية (ديلزي) في (الصخب والعنف)، ذات العاطفة الصادقة تجاه الجميع، والحزينة المتحسرة لانهيار العائلة، تقابلها في روايتك (فضيلة) المحبة للجميع والإنسانة الطيبة التي لا يهمها إلا أن تُرضي أبويها وإخوتها، والحزينة المعذبة للمصير الذي تؤول إليه العائلة".
عندما استمع الكاتب الكبير إلى هذه التفاصيل، قال باندهاش: "يجب أن أقول إني مندهش لاكتشافك هذه الأشياء! فهي غريبة جداً، ولكنها تبدو صحيحة وليس عندي اعتراض عليها. وأنا أتساءل كيف استطعت أن تجد هذا التشابه؟ لقد قرأتُ (الصحف والعنف) فعلاً، ولكن من مدة طويلة، ولم يكن في ذهني أبداً شيء عنها، وأنا كنت أحاول في (ظلال على النافذة) تصوير عائلة عراقية بحتة انتقلت من حيّها القديم، ولكنها أخذت معها إلى الحي الجديد كل تقاليدها. أما هذا التشابه فإنه لم يخطر في ذهني على الإطلاق". ومن الواضح، من كلام فرمان، أن كل ذلك، الذي سمعه مني، لم يسمعه من أحد غيري.
لكن الحكاية لم تنتهِ عند هذا الحد، إذ لم تمض أيام قلائل على عودتي إلى مقر دراستي حتى تلقيت رسالة من الكاتب، يقول فيها:
"مسألة التأثر والتشابه في الأعمال الأدبية مسألة معقدة وقديمة، ترجع إلى عهود سحيقة. ويستطيع القارئ أن يجد أوجه تشابه كبيرة في أعمال كثيرة، حتى لعظام الكتاب [لاحظ يكف يبدو فرمان هنا وكأنه في موضع اتهام، وما هو كذلك بالطبع]... هناك ملامح متشابهة: حب، وكره، وأنانية، وما إلى ذلك. ولكن الشريحة الاجتماعية، القيمة الحياتية، الجو المتفرد، هل هو متشابه دائماً في مثل هذه الأعمال؟... أعتقد أن هناك تجاوزاً، وتجاوزاً خطيراً في المحاكمة لتلمُّس وجه شبه بين أعمال وأعمال... أنت إذا حكمت على عمل أدبي بالتشابه مع آخر نزعت عنه كل قيمة وأصالة وجعلته تابعاً للعمل المقلَّد، وهذا ما أرفضه". وواضح أن فرمان ينطلق، في هذا، من فهم خاطئ للأدب المقارن ولقضية التأثير والتأثير، وقد غاب عنه أنْ ليس من كاتب في العالم لم يتأثر بغيره.
( 2 )
بعد سنوات عديدة من ذلك ومن وفاة فرمان، اطّلعت على كتاب زهير شليبة عن فرمان الصادر عام 1996 وهو تجميع لدراسات وحوارات لمجموعة كبيرة من الكُتّاب، فوجئت به يشير، ولا أقول يدرس كما فعلت أنا تفصيلياً، إلى التلاقي ما بين روايتَي "ظلال على النافذة" و"الصخب والعنف"، ومرجّح جدّاً أنه قد اطّلع، من فرمان مباشرة، على رصدي ومقارنتي وما قلته في الروايتين، فلنا أن نتوقع من فرمان، بعد أن أخبرني بوجود شخص آخر يدرسه، أن يُخبر ذلك الشخص، الذي واضح أنه شليبة، بوجود شخص آخر، الذي هو أنا، يقوم بدراسته، وواضح أنه أشار خلال ذلك إلى ما غضب منه، أعني من قولي بتأثره بفوكنر وبالتلاقي ما بين روايته "ظلال على النافذة" ورواية فوكنر "الصخب والعنف"، خصوصاً أن شليبة لم يستطع أن يفصّل في الأمر. فليس من السهل أن يلتفت باحث إلى التلاقي بين روايتي فرمان وفوكنر، وعليه مستبعد احتمال أن يكون اكتشافي الذي فصّلتُ فيه و(اكتشاف) شليبة المجتزأ كان نتاج صدفة، بل الواضح جداً أنه سمع ما زعمته من فرمان، مع احتمال ضعيف جداً أن يكون قد اطّلع على اطروحتي التي ناقشتها عام 1983، أي قبل كتابه بعشر سنوات. المؤسف أن شليبة لم يذكرني ولو بإشارة وهذا ما أجده عدم أمانة منه، حتى وإن افترضنا، وهذا مستبعد، أنه هو الآخر اكتشف التلاقي من دون الاعتماد على دراستي، ببساطة لأن دراستي، التي كانت أول دراسة أكاديمية شكّل فرمان أحد أضلاعها الرئيسة، سبقت (اكتشافه) بسنوات عديدة.
( 3 )
بقي أن إشارة غريبة وغير موضوعية أخرى وردت في الكتاب، وهذه المرة على لسان فرمان حين يقول لزهير شليبة نفسه، وضمن حوار معه: "إنني أرفض الآراء التعسفية، التي يطلقها أحياناً بعض النقاد، ومن ذلك أن أحدهم أخبرني بأن روايتي (ظلال على النافذة) متأثرة بـ(الصخب والعنف) فقلت له- والكلام لفرمان عني- أذهلْتَني برأيك هذا وأنا أجرّ لك أذن... إلا أنني عندما راجعت نفسي... توصلت إلى عدم وجود أوجه شبه بين هاتين الروايتين.. أنا قرأت (الصخب والعنف)... وقرأت كل أعمال فوكنر باللغة الإنكليزية، ولا يعجبني عالمه". وواضح أن كلام فرمان هذا أولاً لم يكن لائقاً أسلوباً، وبصراحة لو كنت قد قرأته في حياته لرددتُ عليه، لكني، ومن منطلق حبي له وثقتي به، وعدم اعتقادي بأن يصدر منه شيء من هذا، لم أطلع على قوله إلا بعد ما يقارب العشرين نشره في كتاب شليبة، وبعد ثلاثين سنة بالتمام من حواري معه، بل طالما تراسلنا أنا وإياه وأرسلت له كتابي الذي هو الترجمة العربية لأطروحتي التي درسته فيها؛ وثانياً، ليس الكاتب هو الذي يحدد إن كان عمله متأثراً أم لا، بل الناقد والدارس المقارن؛ وثالثاً، إن المقارنين يحذّرون دوماً من سعي بعض الكتّاب إلى إبعاد الدارس عن رصد تأثراتهم وكأنها سُبة فيدّعون بأنهم لا يحبون مَن يزعم الناقد المقارن تأثرهم به، بل قد يدفعون الناقد إلى كُتّاب آخرين بعيدين غالباً عنهم طبيعة واسلوباً، وبعيدين عن أن يكونوا متأثرين بهم، فيدّعون أنهم يحبونهم، وهو تماماً ما فعله فرمان، وإلا بربكم هل مقنعٌ ادّعاء فرمان بأنه قرأ كل أعمال فوكنر بالإنكليزية ولكنه لم يُحبّه؟ أما تعلّقاً بشليبة هنا، وبالعودة إلى البداية وإلى افتقاد الموضوعية والأمانة، أليس غريباً، ومع كل العصبية التي أظهرها فرمان له إزاء قولي بتأثّر روايته برواية فوكنر، أن يتبنى شليبة رأيي بالتأثر؟ أليس هذا غريباً؟ بعبارة استفهامية أخرى، ماذا نفهم، وبالرغم من كلام فرمان وغضبه مما قلته أنا بتأثره بفوكنر، من قيام شليبة بمخالفة الكاتب، وهو المنحاز له، ليقول بالتلاقي بين الروايتين المعنيتين بعد وفاته؟
وبالعودة إلى كلام فرمان عن الرأي بتلاقي روايته مع رواية فوكنر، وبتجاوزه اسم صاحب ذلك الرأي، الذي هو أنا، أقول بصراحة أنا لا أستطيع إلا أن أسمّي هذه الأنّية من فرمان، خصوصاً وهي تأتي بعد رسالته العصبية التي بعثها لي، بـ(الذات المتضخّمة) التي أشرت مرّةً، في دراسة، إلى أنها تستقر في دواخل أغلب المبدعين، والكثير من المثقفين، الشرقيين، مهما كبروا. فأنت تراهم، مثلاً، طوال حياتهم يطالبون السياسيين والأنطمة والسلطات المختلفة بالحرية والديمقراطية وإطلاق حرية الكلمة وباحترام الرأي الآخر، ولكن متى مسَسْتَهم بأي شيء لا يُرضيهم، حتى ولو كان نقدياً، هاجت ذواتهم وفقدت كل توازن في ردودهم ونقاشاتهم. ولأنها ترسبات الشخصية الشرقية أو العربية، وتراكمات تاريخ من الذاتية وقمع الآخر، زوجةً أو ولداً أو بنتاً أو تلميذاً أو أبناء عشيرةٍ أو شعباً، فإنها تكون قابعة دوماً في دواخلهم من حيث يعون أو لا يعون، وتعبر عن نفسها بمختلف السبل والأشكال. ولأن الفنان المبدع هو أكثر البشر ذاتيةً، إذ بدونها ما كان ليكون فناناً، فإن هذه الذاتية تكون إيجابية حين تكون وراء تعبيراته الفنية، وتكون سلبية حين يشعر، مصيباً أو مخطئاً، أن الآخر يمسّه، إذ تستعر وتثور على كل من يخالفه حتى وإن جاء من نقد ونقاد مثلاً. ونحن لو نراجع تاريخ وسطنا الثقافي فسنجد أمثلة لا تُحصى من ذلك. بقي أن أؤكد أخيراً ما سبق لي أن قلته نقدياً، في اطروحتي، وهو: "إن رواية فوكنر تركت تأثيراتها المختلفة على رواية فرمان، ولكن دون أن تسلبها بالتأكيد هويتها الخاصة ولا شخصية كاتبها".