TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > طرطور وطرطوف Tartuffe

طرطور وطرطوف Tartuffe

نشر في: 20 نوفمبر, 2017: 09:01 م

لدى الكثير منا ذكريات وأفكار وتصوّرات عن مسرحية موليير الشهيرة طرطوف Tartuffe التي تشير إلى "المتديّن المرائيّ"، المُداهِن. شخصية طرطوف مثل شخصيات متديّنة كثيرة بين ظهرانيا اليوم (وليس كلها بالطبع) هي شخصيات مُركَّبة، وليست ذات بعد واحد كما قد يصوّرها خصومها. الإشكالية الكبيرة التي عالجها موليير هي مشكلة النفاق التي يتسم بها "كل طرطوف"، وتستره بستار الدين. ومنذ الوهلة الأولى في المسرحية نستشف أن المؤلف يتناول بالنقد الساخر أولئك الذين يتظاهرون بالتقوى (اسألوا العراقيين أيضاً عن مثل هاته الشخصيات). لكن المؤلف مثل العراقيين اليوم لا ينكر وجود أتقياء نظيفي العقل والقلب، بل هو يعترف صراحةً في نصه بسموهم ونقائهم، ولكنه لا يقبل لهم التفاخر بالتقوى، ولا الخروج عن حدود العقل عند معالجة الدنيويّ المعقول لصالح النص الجامد غير المعقول. وهي إشارة مبكرة لمفهوم (التعصّب) و(التشدّد) و(الجمود) العقائديّ الذي صرنا نعرفه اللحظة خير معرفة. شخصيتا المسرحية (كليانت) و(فلير) يترددان على الكنيسة لإداء واجب العبادة، ليس كي يستعرضا أمام الآخرين تقواهما، ولكن لأنهما هكذا بالفعل، وليس لأن فضاء العبادة مناسبة للقاءاتٍ مريبةٍ وللأقاويل. ينقد موليير رجال الدين الذين يتجسّسون على أحوال الآخر ويتدخلون في ما لا يعنيهم. نص (طرطوف) يستحق إعادة القراءة بل العرض في هذه اللحظة من تاريخ العراق الحديث. ذلك أننا اليوم في قلب فاعلية طرطوفنا العراقيّ. طرطوفنا في قمة مجده الآن. اسألوا العراقيين مرة أخرى عن ذلك.
لكن ما قد يوقف المرء، إضافة لذلك، هو أصل اسم العلم "طرطوف" الذي ما زال الشكّ يحوم حول مصدره، ويقال أحياناً بأنه قد يكون من أصل إيطاليّ Tartufo. لكن التقاربات الصوتية والدلالية كبيرة ودالة بين الاسم الفرنسيّ المذكور ومفردة لسان العرب (الطُّرْطُور) وهو الوغد الضعيفُ من الرجال، والجمع الطَّراطير؛ وأَنشد (قد عَلِمتْ يَشْكُرُ مَنْ غُلامُها، إِذا الطَّراطِيرُ اقْشَعَرَّ هامُها)، ورجل طرطور أَي دقيق طويل. والطرطور قلنسوة للأعراب طويلة الرأس. وفي عامية العراق معنى طرطور هو معنى اللسان نفسه. ومن ذلك أيضاً، في اللسان، التَّرارَةُ السِّمَنُ والبضاضة؛ يقال منه تَرِرْتَ، بالكسر، أَي صرت تارّاً وهو الممتلئ والتَّرارَةُ امتلاء الجسم من اللحم ورَيُّ العظم؛ يقال للغلام الشاب الممتلئ ثارٌّ. وفي حديث ابن زِمْل (رَبْعَةٌ من الرجال تارٌّ)؛ التارُّ الممتلئ البدن، وتَرَّ الرجل يَتِرُّ امتلأَ جسمه وتَرَوَّى عظمه؛ قال العجاج (بِسَلْهَبٍ لُيِّنَ في تُرُورِ). ورجلٌ تارٌّ وتَرٌّ طويل. والتَّرَّةُ هي الجارية الحسناء الرعْناء. والتَّرَاتِيرُ [كأنها الطراطير] هنّ الجواري الرُّعْنُ. والأُتْرُورُ الغلام الصغير. والأُتْرُورُ الشُّرَطِيُّ؛ وقيل الأُتْرُورُ "غلامُ الشُّرَطِيِّ لا يَلْبَسُ السَّوادَ". قالت الدهناء امرأَة العجاج (والله لولا خَشْيَةُ الأَمِيرِ، وخَشْيَةُ الشُّرْطِيِّ والأُترورِ، لَجُلْتُ بالشيخ من البَقِيرِ، كَجَوَلانِ صَعْبَةٍ عَسِيرِ). ولعل بعض غلمان الشرطة يومذاك كان من الفتية الأشداء النزقين: نُسيتْ ترارتهم ووقع التشديد على رعونتهم. لذا من الممكن اقتراح علاقة أخرى بين (الطراطير) و(التراتير)، فهما يشيران إلى المعنى نفسه، الضعيف من الرجال والجارية الحسناء الرَّعْناءُ. ونرى أن ترر تنحو نحو دلالة طرر هنا. وبالدلالة نفسها تقريباً تُستخدم مفردة طرطوف Tartuffe الفرنسية. ولعل ذلك من محاسن الصدف اللغوية، ومن مفاتن اللقاءات الدلالية مع طرطوفنا المحليّ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram