شاكر لعيبي
يتكرّر على مسامعنا مصطلح التحرّش الجنسيّ في العالم العربيّ. وغالباً ما نفكر بالتعبير الفرنسيّ وأشباهه الأوربية (harcèlement sexuel) حيث يعني بالحرف المضايقة الجنسية. فما التحرّش عند العرب؟
في يومنا الحالي يختلف معنى التحرّش عن معناه القاموسيّ. يُعرّف المركز المصريّ لحقوق المرأة التحرش الجنسي اليوم بأنه "السلوك غير اللائق ذو الطبيعة الجنسية الذي يضايق المرأة أو يعطيها إحساساً بعدم الأمان". ويُحدّد التحرش الجنسيّ بصيغ الكلمات غير المرحب بها أو الأفعال ذات الطابع الجنسيّ والتي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بالتضايُق، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو منحه الانطباع بأنه محض جسد [لا غير]".
و يُتفق على ذلك في كل مكان في العالم المعاصر، ولعل تعريفات التحرّش الجنسي العربية مأخوذة، مستلهمة، مترجمة أو مستوحاة من التعريف الأوربيّ الحديث، بنوع من الابتسار، إضافة إلى تجاهل الثقافة العربية الذكورية إشارة المصطلح الجوهرية إلى الاستمالات والضغوظ في أماكن العمل للحصول على علاقات جنسية تحت ضغط العقاب الإداريّ وغيره.
الثقافة العربية تشدّد على التحرّش الجنسيّ الصارخ في الشارع، دون رادع قانونيّ أو حضاريّ، أو عُرْفي.
فبماذا تختلف دلالة التحرش القاموسيّة؟
في لسان العرب الحَرْش والتَحْرِيش هو إِغراؤُك الإِنسانَ والأَسد ليقع بقِرْنِه [بقرينه]. وحَرَّش بينهم أي أَفْسد وأَغْرى بعضَهم ببَعض. والتحريش الإِغراء [التحريض] بين القوم وكذلك بين الكلاب. وفي الحديث أَنه (نهى عن التحْريش بين البهائم)، هو الإِغراء وتهييج بعضها على بعض كما يُفْعل بين الجمال والكِباش والدُّيُوك وغيرها. ومنه الحديث (إِن الشيطان قد يَئِس أَنْ يُعْبَد في جزيرة العَرَب ولكن في التحريش بينهم) أَي في حَمْلهم على الفِتَنِ والحُروب. وأَما الذي ورد في حديث عليّ في الحج (فذهبْتُ إِلى رسول اللَّه، مُحَرِّشاً على فاطمةَ،) فإِن التحريش ههنا ذكرُ ما يُوجِب عتابَه لها، أي معاتباً لها ومشتكياً منها.
التحريش يعني في القاموس العربيّ إذن دلالة التحريض، أو الاستفزاز، ليس النفسي بل التحريك غصباً، ففي القاموس أيضاً: حَرْشُ الضب صَيْدُه هو أَن يُحَكَّ الجُحْر الذي هو فيه يُتَحرَّشُ به، فإِذا أَحسَّه الضبّ حَسِبَه ثُعْباناً، فأَخْرَج إِليه ذنبَه فيُصاد حينئذ.
يظل المعنى الأيروتيكي للحروف (حر ش)، فإين أصله يا تُرى في المعجم؟ المعنى أيروتيكيّ قابع في (الحَرْش) الذي هو ضَرْب من البَضْع [المُجامَعة] وهي مُسْتَلْقِية. وحَرَشَ المرأَة حَرْشاً جامعها مستلقية على قفَاها. والفعل مشتق من حَرَشَه، بالحاء والخاء جميعاً، حَرْشاً أَي خدشه؛ قال العجاج (كأَنَّ أَصواتَ كِلابٍ تهْتَرشْ - هاجَتْ بوَلْوَالٍ ولَجَّت في حَرَشْ). وفي اعتقادي يتعلق الأمر بالخدش كأنه خدش المرأة جنسياً.
التحرُّش في نهاية المطاف هو الخدش الماديّ الحسيّ ثم تحوّل توسُّعاً إلى دلالة الخدش المعنويّ، الإنسانيّ والنفسيّ. نحن لا نجد في لسان العرب (التحرّش) بالدلالة التي نستخدمها اليوم. نجده بالمعاجم العربية المتأخرة: فإن تحرَّش بالشَّخص تعرَّض له ليهيِّجه ويستفزَّه (أخذوا يتحرَّشون بجيرانهم) أو (يتحرش بجارته). وهذا مما أُضيف، كما أحسب، للدلالة القاموسية الأصلية. نعم، العاميات العربية كالعراقية تستخدم التحرّش (كما في قولهم يتحرّش بي) أي (يستفزّني) بدلالة أقرب اصطلاحياً (للتحرّش الجنسي) الفصحى الحالية. قلنا المعاجم المتأخرة لكن متأخرة في أي زمن بالضبط؟ نحن لا نمتلك للأسف معجماً اشتقاقياً تأريخياً لنعرف زمن دخول الاستخدام المُحْدث نسبياً للتحرّش.