فوزي كريم
(2 - 2)
مثقف الأدب العربي المابعد حديث، الذي تمثّلتُه "دون كيشوته" يقيم داخل بالونة الوهم، لا على فرس عجوز. إنه أخف من أن يحتاج إلى أرض، ومعدات قتال. يكتفي في أداء حملاته على مستويات عدة من التعامل مع اللغة النقدية في عربية اليوم، التي استسلمت له، يعبث بها على هواه، بفعل تداعي عافيتها. حين يقول أحدهم: "تشكل وعيي النظري والمعرفي، وأنا تلميذ في نطاق النظرية الماركسية اللينينية. لكن وعيي الكتابي والمعرفي تبلور مع البنيوية باعتبارها إبدالاً جديداً جاء ليجدد النظر إلى الانسان والمجتمع والتاريخ.."، يكون هو في "فاس"، "الحلة" أو "حمص". مدن تفتقد إلى أبسط المجاري الصحية. ولكنه يجرؤ بيسر أن ينطلق من النظرية "الغربية" لتغيير الانسان المجرد والمجتمع المجرد والتاريخ المجرد. إنه "دون كيشوته"، ولكن دون براءة الأخير. لقد تمتع بمزايا عصرية تُقرّبُ الوهمَ من الاحتيال، لأنه يعرف بحكم البديهة قوة المفارقة التي يعيشها، بين خطواته على الأرض وبين خطواته في الهواء. ولعل هذا الاحتيال على تماس مع الموقف الأخلاقي، لأنه مقصود ومؤثر في الآخر. كان الشاعر "إزرا باوند" إنساناً رائعاً وهو يخطو على الأرض، ولكنه ما أن يبدأ خطاه في الهواء حتى يردأ. ومن حسن حظه أن شعره، على خلاف توجهه الفكري، ينتسب إلى خطاه الأرضية.
"دون كيشوته" العربي يجمع عُدّةَ المحارب من الكتب النقدية الفرنسية والأمريكية، التي تجاوزت عقل الحداثة إلى ما بعده. هذه العُدة كافية لجعل "المخيلة" تنفرد به وحدها، وتضمن له التحليق الحر باتجاه مغامراته. وما أن تخمد، بعد أن يغادر دورَ المثقف الطليعي، المحصّن بالكتاب والورق وفرص الحوار، حتى تعود إليه "ذاكرته" ثقيلة الوطأة، بفعل الإهمال والانكار.
عُدة المحارب لديه وليدة حضارة بعيدة في المكان وبعيدة في الزمان، بفعل تقدمها الضوئي، ولكنها قريبة كل القرب بفعل وسائل الاتصال الرقمية، القادرة على تعزيز الوهم لا الحياة، لأن الحياة فعل وممارسة. إنها الصديق الرقمي على شاشة الكومبيوتر. وتطلعات هذه الحضارة وطموحاتها لا حد لاتساعها وضخامتها، بحيث يبدو انتساب "فاس" و"الحلة" أو "حمص" إليها دعابة ساخرة أقرب إلى التنكيل. ولكن هذا الاتساع والضخامة سرعان ما يتحولان إلى صيغ رقمية، تدخل رأس "دون كيشوته" العربي بيسر. ولذلك لا يعنيه من أمر مدنه وناسه شيء. إنه هو وحده القادر على "المطابقة" مع المثقف الغربي. وحده في عزلته المؤقتة مع الكتب المحشوة بالنظريات. وبذا تتيسر بين يديه كل ما لدى "زميله" الغربي من أطروحات نظرية، يستخدمها في تحليل ظواهر لا وجود لها، ويولّد منها اجتهادات لا سند لها، وهذه الاجتهادات تتزاحم مع اجتهادات آخرين، لا يقلون عنه وهماً، فيحدث الخلاف، ومعه تتدفق المقالات والكتب. ولك هذا المثل: إن مأزق "المطابقة" مع الغرب، عند بعضهم، يتعارض مع مأزق "القطيعة" والرغبة بالاحتفاظ بالهوية دونه. هذان المأزقان مختلقان ولا وجود لهما عند أحد. فكيف يمكن أن يتطابق المثقف أو الشاعر العربي مع المثقف أو الشاعر الغربي، وبينهما تفاوت، لا في الدرجة وحدها بل في النوع؟ ثم كيف يمكن أن يُتاح لبعضهم المعارض أن يحقق القطيعة مع الغرب، حتى لو أراد، وهو في اللباس الغربي، والسيارة الغربية، وفي غمرة الانترنيت الغربي؟
"دون كيشوته" العربي يستوعب ذلك، فهو سيد إيهام النفس، ما دام الأمر يخرج من كتاب، ليدخل في كتاب. ويخرج من رأس مفكر ليدخل في رأس مفكر. وما دام الأمر في جملته داخل بالونة الوهم في الأعالي، بعيداً عن أي تماس مع حياته هو وحياة محيطه.
إن العودة من علياء "المخيلة" التي تمد خطاها حرةً في الفضاء، إلى أرض "الذاكرة" التي تتعثر فيها الخطى، لم تعد ممكنة. ولا ممكنة الدعوة إلى عودة كتّاب الثقافة النقدية والفكرية إلى المرحلة التي سبقت الستينيات. واحتمال كل هذا السيل من الإيهام المخدر غير ممكن بدوره، والرضى به دعوة للانتحار العقلي.