خالد خضير الصالحي
كنت اؤكد دائماً الحاجة الى إعادة توضيح المرتكزات الاساسية التي نستند عليها في محاولاتنا تناول التجارب الإبداعية للرسامين العراقيين، حيث كنا نطمح إلى تكريس تناول الشكل الابداعي وإبداعه (بطريقة شيئية)، تهتم بالتناول الطوبوغرافي لعناصر اللوحة، وكنا نطمح الى الانسجام مع منطلقاتنا الأساسية: (بأن العقل البشري قادر على التصور بصيغة أشكال مكانية – بصرية) وإننا في الرسم معنيون (بتكوين حقيقة تصويرية وليست حقيقة حكائية)، وإن (الوعي بالشكل) هو أمر في غاية الجوهرية في خلق الفنون، ودراستها وانه (يوحـّد البشرية ومن شأنه ان يمحو الزمن)، ونحن واثقون إن ذلك يسلحنا بمقاربة نقدية مفيدة في تناول تجربة الرسام هاشم تايه بشكل خاص.
منذ بداياته الأولى، ومنذ معرضه الشامل الذي أقامه في قاعة اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة عام 1989 كانت طبيعة المادة المستخدمة فيه تلقي بثقلها على الفنان هاشم تايه، فهو يسلك ستراتيجاً مختلفاً في كل مرة يبدل فيها المادة المستخدمة في إنجاز اللوحة، وهي ليست ستراتيجيات متناقضة، بل يمكن القول إنها متتامة، وتحتمها طبيعة المادة المستخدمة التي تنوعت بين: الألوان الزيتية، والألوان المائية، والتخطيطات بالحبر الصيني، وأحيانا مواد (استثنائية) مثل الكارتون المحروق! الذي استخدمه مادة وحيدة في معرض أقامه في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان)، والألوان النباتية (العطّـارية) أي التي يجمـّعها ويركبـّها العطارون المشتغلون بالتوابل والعطور وما إلى ذلك من المواد التي كان لها سوق خاص في البصرة في منطقة العشار خلال ستينيات القرن الماضي، وهو سوق الهنود، وقد تكون هذه الذكريات او ظروف الحصار والافتقار الى مواد الرسم، هي الدافع لاستخدام الألوان (العطارية)، وفي ذهننا تجربة الرسام/ النحات المصري آدم حنين حين استخدام ورق البردي للرسم وفريد بلكاهية في الرسم بالحناء على الجلود بدوافع مختلفة بالتاكيد.
إن إجراء حفر اركولوجي في شيئية اللوحة يقودنا الى أن تكنيك إنجاز اللوحة عند هاشم تايه، مماثلة لما هي عند علي النجار، وتكنيك إنجاز اللوحة عند الرسامين الحدثيين، فحين يتم تطبيق استراتيج التجميع، لبدء العمل، بنقل سطح اللوحة، من وضعه الخام (الأملس) إلى سطح (مشغول) بمتعرجات او مفروكات (frottage) من: بقع وآثار وما شاءت الصدف من علامات تلقى عليه بطريقة غير مخططة تمثل البنية الغائرة للوحة، لتشكل (ملمسا) يعين عين الرسام على الإمساك (بالمستحـثات) التي توفر طاقة تجعلها قادرة على تلبّـس (تحولات شكلية) باتجاه ما علق بخيال الفنان من (أشكال مترسبة في طبقات اللاوعي الغائرة) قد لا تتم مقارنتها أو إحالتها، بعد ذلك، إلى أشياء الواقع التي تتخندق ضمن أحد الأشكال ذات المحيط الكفافيّ المماثل في نهاية المطاف، بل هي تحال حتماً إلى اركولوجيا الذاكرة، والى أشكالها، وقد كرس هذا التكنيك رسامو (المفروكات)، و أبرزهم ماكس آرنست، لكن الفارق الكبير هنا هو ان هدف الكثيرين هناك يتمثل في العودة من أشكال سطح اللوحة إلى ما يماثلها من أشكال الواقع، بينما يوفر هاشم تايه لنفسه هامش حرية اكبر حين يعود من أشكال المستحثات التي خلقها صدفة، إلى ما يماثلها من خيالاته، وهي خيالات تجمعت في ذهن الرسام، وبدأت تطفح مع ما يطلقه لا وعيه الفردي، و(اللاوعي الشعبي) الذي ينطلق: حكايات، وأساطير، ورسوما، وحيوانات مركبة، فتمتلئ لوحته: عفاريتا وكائنات خرافية يركـّبها بما يشاء له خياله، تماما كما كان البشر القدامى يركبون حيواناتهم: ثيرانا مجنحة وإلاهات أفاع ورجالا مجنحين وغير ذلك، وبشكل يؤكد أن الفنان هاشم تايه (يركز اهتمامه على الخيال الطفولي واستحضار الخبرات البكر بتصورات حدسية).
يستثمر هاشم تايه، في تخطيطاته، نتائج بحثه النهائية في أعمال الألوان النباتية (العطارية)، فيختار كائناته التي خلقتها الصدفة ثم خلقتها إرادة الفنان الواعية التي تبعتها، لكنه فيها يتبع إستراتيجيا مختلفا ومكملا، حيث يتخلى هذه المرة عن فكرة التركيب إلى التحليل (التقليل) حيث لا يتبقى من تلك الكائنات سوى: خطوطها الخارجية، وبعض اللمسات الضلـّية التي يعتقدها الفنان مهمة لاكتمال خلق أشكاله، وهذا الإستراتيج هو ذاته المتبع في إنجاز لوحاته الزيتية إلا ان إدخال عنصر اللون في مرحلة لاحقة يتم بصفة رئيسة لردم الفراغات بلون أحادي، هادئ وغير مشاكس، ولا يهدف إلى تحقيق أية مهمة سوى ما ذكرناه، أي ردم الفراغات!.
نعتقد أن أعمال هاشم تايه ذات طبيعة خطية كاليغرافية، في الغالب، وهي سمة لا تقتصر على الأعمال التخطيطية، فقد تكون أعمالاً بالألوان الزيتية او الاكريليك لكن بنيتها تتخندق مع الأعمال التخطيطية، وكأن اللون فيها لم يتنافذ كفاية مع بناء اللوحة، فبدت وكانها تخطيطات علق بها ثؤلول اللون في مرحلة تالية، فلم تغير تلك الإضافة طبيعة العمل شيئا، وبذلك فنحن نعاملها وكأنها لوحة تخطيطية من وجهة النظر الطوبولوجية، وسوف نقصر اهتمامنا على تكوينها الشكلي الكاليغرافي، مع بعض الإهمال لمتيرياليتها، وهذه الملاحظة الأخيرة لا تصح على الأعمال التخطيطية بالحبر الصيني، فأن تناولنا لها يتضمن طبيعتها (المتيريالية) كون الخط الأسود هو الذي يبني اللوحة وحيدا، فيغلق الأشكال، ويردم الفراغات ويقوم بكل المهمات .
يقيم الرسام، (= المخطِّـط هنا)، هاشم تايه أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه: البساطة والقوة، فتعني البساطة هنا التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل، وانتاج اللوحة بتوجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل، تماما مثلما استخلص بيكاسو زبدة كتاب براساي المسمى (أشكال خطوطية جدارية Graffiti)، و في فصل (ولادة الوجه)، وهي تجميع لصور فوتوغرافية لوجوه نفّـذت من ثقبين، أو ثلاثة ثقوب في جدار، وقد درس بيكاسو هذه التخطيطات باهتمام بالغ وعلق بأنه كان يعمل وجوها كهذه، وأن ثقبين هما رمز للوجه الإنساني، وهو ما يكفي لأبرازه من غير تجسيد بهذه الوسائل البسيطة، وكذلك أنجز بيكاسو تخطيطات لم تكلفه سوى خط خارجي وحيد كاف لأبراز كثافة وامتلاء الجسد الإنساني، وهذا هو ما فعله هاشم تايه تماما، فكما يصنع الصغار الوجه الإنساني من كلمة (ملح) التي يمطون نهاية الحاء فيها لتشكل دائرة تلتف حول الميم لتلتقي مع رأس اللام، فقد كان يطلق حركة نقطة (من مكان مجهول من الشكل) لتؤلف خطا يصنع أشكالاً طوبولوجيا مغلقة، ينتهي من حيث يبتدئ، يحيط الشكل، ويصنع بذلك شكلا مغلقا معزولا، بالخط الخارجي عن بياض الورقة المحيط به، تماما كما كان يصنع العراقيون القدامى جداراً محيطاً لمعابدهم بهدف المحافظة على قداستها بعزلها عن المحيط الخارجي ، وكانوا يسمون ذلك الجدار كيسو (هل له دلالة بالكِيْس؟)، خط لا بداية له هنا ولا نهاية، يبتدئ من أية نقطة على الصفحة البيضاء، وفيها ينتهي وهو يصنع أشكاله المغلقة، خط لا انقطاع فيه، ولا وجود لتعاقب ارسطوطاليسي من البداية، مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية، هو زمن متعاقب مستمر ابدي لا ينتهي، فلا وجود إذن لزمان يمكن ان نؤرخ له بتحرك النقطة، وكأنما انهت الحركة الدائرية للنقطة البعد الزماني الذي يستوجب تسجيلا للتطور الخطي.
يتجسد البعد الآخر للتكوين (= القوة) في جرأة الخط، أو جرأة النقطة التي يبدو أنها تعرف مسبقاً خط سيرها، لذا تترك أثراً لها خطاً قوياً محفورا ًعلى بياض الورقة، يمتلك حدة واضحة، خط يمتلك ثقة ومقدرة على فصل مساحتين من نفس اللون الأبيض، لذا فهو خط حقيقي يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما، وذلك راجع الى ان التكوين الخطي تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة يصنعها المداد الأسود الفاحم.
يتمتع أبطال هاشم تايه، وكن إناثاً دائماً، و(شخصيات مؤسلبة على نحو تعبيري)، تتوفر على سطوة وهيمنة، وقدرة انشطارية، كما هم الأبطال دائما في الأساطير، وهو ما سبق وأكده كارل كوستاف يونغ في دراساته عن الأحلام، وغالبا ما تحتل هذه الشخصيات، الجزء الأعظم من مساحة اللوحة: أنثى، تهيمن على المشهد، وينبثق منها، او على وشك ذلك، او ربما يلتصق بها او يلوذ بها، او يتسلقها، كائن بهلولي، او يتقافز حولها، وغالبا ما يكون سعداناً صغيراً أو كائناً شبيها به، وقد يلتصق بها كالقرادة، أو يخرج من مكان منها كالثألول، كائناً صغيراً، طفيلياً، قد يبدو مزعجاً، ولكنه يبدو ضرورياً لاكتمال اكسسوارات وجودها!، ورغم ان صديقنا الكاتب فائز ناصر الكنعاني يصفه بأنه شخصية ثانوية… وعبئاً على الشخصية التي يصفها بأنها (الشخصية الأساس)، "امرأة تشكل عالما مستديرا، مغلقا، ومعتما، ومنكفئا الى مركزه، تهم بواحدة من يديها بإدخال رجل، بحجم دمية، من فتحة تفضي الى الخارج"، ويصف العملية كلها بأنها "ضرب من الاستبطان النفسي، ينم عن الرغبات السرية"، وقد تكون تلك تجارب ذات طابع سادي يمارسها الفنان على شخوصه الخرافية حينما يضعهم في غيابة اللوحة، وقد حجزت حيزا من فراغها، واقتعدت موقعها من أرضيتها، فتحولت احيانا الى أرضية تنبثق من فجواتها، ونتوءاتها، حيوانات وأشكال آدمية أخرى، كما لو كانت أعضاء جديدة، بهيأة الكائن الآخر العبء على (الشخصية الأساس).