ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم الأوّل
تشارك الأدبُ والفلسفة منذ أزمانٍ بعيدة إهتماماً بأسئلة الحقيقة ، والقيمة ، والشكل ؛ ولكن برغم ذلك فقد أظهرا تباعداً حاداً بينهما منذ عصور قديمة وحتى يومنا هذا ، وظهر ذلك التباعد في مقاربة كلّ منهما لتلك الأسئلة وفي علاقة كلّ منهما مع الآخر . يُضافُ لذلك أنّ الإختلافات العميقة بين الكُتّاب الأفراد ، والحقب التأريخية ، واللغات فرضت تحدّياتٍ على كلّ من يبتغي فهم العلاقة بين هذين الحقلين المعرفيين . توفّرُ هذه المقدّمة The Cambridge Introduction to Literature and Philosophy ، المنشورة عن جامعة كامبردج عام 2015 ، دليلاً مركّباً مفعماً وتأصيلياً لفهم هذه الإشكالية الكبيرة من خلال الكشف عن الإهتمامات العميقة التي يتشارك بها الأدب والفلسفة في الوقت ذاته الذي لاتغفلُ فيه المقدّمة عن تقديم أطروحة بيّنة بشأن الإختلافات الحاسمة بينهما . تُلقي هذه المقدّمة أضواء كاشفة جديدة على الكثير من المناقشات الجدالية القائمة ، وتوفّر لطلبة
وأساتذة كلّ من النقد الأدبي ، والنظرية النقدية ، والفلسفة الفرصة للتفكّر الهادئ والرصين غير المسبوق في تلك الأسئلة التي شغلت التقاليد الفكرية الغربية طويلاً منذ بداياتها وحتى عصرنا الحاضر .
التعريف بمؤلّف الكتاب أنتوني جَيْ. كاسكاردي
المركز الحالي :
يعمل البروفسور كاسكاردي عميداً لقسم الفنون والإنسانيات بجامعة كاليفورنيا / بيركلي ، وفي الوقت ذاته يشغل منصب أستاذ مميّز Distinguished Professor في الأدب المقارن ، والبلاغة ، والدراسات الإسبانية في الجامعة ذاتها .
الشهادات الأكاديمية :
- دكتوراه الفلسفة Ph.D ، جامعة هارفرد ، 1980 ، في موضوعة الآداب واللغات الخاصة بالحركة الرومانسية .
- ماجستير الآداب M.A. ، جامعة هارفرد ، 1977 .
- بكالوريوس الآداب ، جامعة برنستون ، 1975 .
المترجمة
المقدّمة
يشبه الأدب والفلسفة في نواحٍ كثيرة عضوين في عائلة واحدة : يتنازعان أحياناً بخصومة عنيفة ، وفي أحيان أخرى يتشاركان الهدوء والدعّة من خلال إنكار وجود الآخر أو من خلال مشاركة كلّ الإهتمامات الثنائية الممكنة . هذا الكتاب هو مقدّمة للكشف عن صلة القرابة التي تقبعُ في الجذور العميقة للعلاقة بين الأدب والفلسفة وكذلك للكشف عن الخصومات النزاعية بينهما . يبدأ الكتاب مادّته بتأكيد حقيقة أنّ الأدب والفلسفة - مثل أيّ أعضاء في العائلة ذاتها - يتشاركان تأريخاً يحملُ كلّ اهتماماتهما المشتركة ، وبالنظر لكون التأريخ مادة ضاربة القدم إلى حدّ أنّ أفلاطون ، في أقلّ التقديرات ، دعاه " الأزمنة القديمة " ؛ فإنّ المترتّبات الناتجة عن التأريخ ووقعها على الحاضر ستكون - بلاشك - كثيرة . إنّ التحدّيات الأدبية أمام الفلسفة ، والتي لاتقلّ عنها شأناً بعض الممانعات الفلسفية تجاه الأدب ، تمضيان في الإستمرارية بموقفهما العتيد - جزئياً - بسبب أنّ مُناصري كلّ طرفٍ يؤمنون إيماناً قاطعاً بوجود قيمة أساسية جوهرية لديهم لايمتلك الآخرون القدرة على رؤيتها ؛ غير أنّ موضوعة هذا الكتاب ليست التأكيد على موضع الإختلافات بين الأدب والفلسفة فحسب . إنّ الصلات القرابية الوثيقة بين الفلسفة والأدب جوهرية وعميقة ، وعلى هذا الأساس فإنّ الإختلافات المزعومة بينهما قلّما تكون أمراً مؤثّراً إلّا في الحالات التي يُرادُ من ورائها التأكيد على كون الأدب والفلسفة يتشاركان إهتماماتٍ أساسية وجوهرية ؛ إذ أنّ موضوعاتٍ من قبيل الحقيقة ، والقيمة ، والشكل ( التي جعلتُها أبواباً تنظيمية لهيكل هذه المقدّمة ) هي ليست مملكة حصرية لأيّ من الأدب والفلسفة ؛ ولكن برغم ذلك فإنّ كلاً منهما يسعى للمضيّ في مسلكه بوسائل مختلفة تماماً ( وأحياناً تكون النتائج المتحصّلة من هذا السعي مختلفة ) في مقاربة كلّ منهما لموضوعات الحقيقة والقيمة والشكل . توفّرُ هذه المقدّمة وسيلة لفهم صلات التقارب والإختلافات التي تبدو نتيجة حتمية بين الإثنين ، كما توفّرُ هذه المقدّمة للقارئ صورة واسعة عن حقل معرفيّ يسوده التنازع الخلافيّ الشديد أحياناً ؛ لكن وراء تلك الصورة الخلافية الواسعة يكمن الجواب الحاسم للسؤال التالي ( لِمَ ينبغي على الأدب والفلسفة أن يكون كلّ منهما ذا أهمية قصوى للآخر حتى في الحالات التي يعجزان فيها دوماً عن إدراك هذه الحاجة ؟ ) .
" الأدب " و " الفلسفة " يَسِمان حقلين معرفيين واسعي النطاق في حين أنّ هذه المقدّمة هي قصيرة نسبياً . إنّ البدء بمهمّتنا هنا بتقديم تعريفات لكلّ من مصطلحي الأدب والفلسفة سيكون شبيهاً بالإنطلاق في مهمّة لايُقدِمُ عليها سوى الحمقى . هل المسلسلة التلفازية عملٌ من الأعمال الأدبية ؟ ( أعتُبِر المسلسل المسمّى The Wire * كذلك ) . هل الرواية المصوّرة ( الغرافيكية ) عمل أدبي ؟ هل كان شيشرون فيلسوفاً ؟ هل كان كولريدج كذلك ؟ قد لاتكون مثل هذه الموضوعات أموراً يمكن القطع بجوابٍ حصريّ مناسب لها . أقولُ هذا وأنا مُدرِكٌ تمام الإدراك لحقيقة أنّ الموضوعات التي تثيرُها مثل تلك التساؤلات السابقة تستدعي الكثير من التفكّر والتمحيص بقدر مايمكن . قد يقع المرء ، على سبيل المثال ، تحت غواية التفكير بأنّ الأدب يستطيب التعامل مع الروايات التخييلية ، وأنّ الإلتزام الصارم للفلسفة بالحقيقة أمرٌ يستوجبُ إستنكار المنحى التخييلي في الأدب ؛ لكنّ هذا الأمر سرعان ماينجلي خطله لأنّ ثمة الكثير من اللجوء إلى التخييل في بعض أنواع الفلسفة بقدر مايوجد في الأدب ، وبالشاكلة ذاتها ثمّة الكثير من الأدب القائم على الوقائع المادية ؛ لكن ثمة أيضاً ولعٌ أدبيّ بالحقيقة التي قد لاتعتمد على الثقة المطلقة بالوقائع الصلبة ، أو يمكن أن يجد المرء غواية في القول بأنّ الفلسفة تُعنى بتخليق أدلّة حجاجية صالحة ، وأنّ الأدب لايشاركُها هذا الاهتمام بل يعتمدُ في المقابل على معقولية مواضعاته المُدّعاة . ثمّة تأريخ طويل من التفكّر في الأدب من خلال هذه المفردات التي تمتدّ عميقاً في مجاهل الزمن حتى أرسطو في أقلّ التقديرات ؛ لكنّ هذه كيفية لايمكن الإعتماد عليها كذلك في التفريق بين الأدب والفلسفة . إنّ الكثير من تقاليد السونيتة ** الأوربية هي ، على سبيل المثال ، مهيكلةٌ حول شكلٍ من أشكال الدليل الحجاجي ؛ لكن أيّ نوعٍ من الأدلّة الحجاجية ، ولمن هي موجّهة هذه الأدلّة ؟ قد يتساءل المرء وهو محقٌّ في تساؤله : خطبة ملتون المسمّاة Aeropagitica*** هي خطبة مشهودٌ لها بأنها دليلٌ حجاجيّ بشأن
أهمية التعليم ؛ لكنّها أدب في الوقت ذاته . سنجد أنفسنا - ربّما - في مأزق مشابه في كلّ مرّة نحاول فيها السعي لبلوغ مقاربة مبتغاة بشأن العلاقات بين الأدب والفلسفة من خلال وضع تعريفات صارمة بضمنها تلك التي قد تستثيرُ أفكاراً بشأن القيمة الجمالية ، أو النزعة التحديدية التأريخية مفرطة الصرامة ، أو الصلاحيّة العالمية . الفلسفة - بعد كلّ شيء - مؤسّسة محكومة بظروفها التأريخية الخاصة ، وهي مسعى معرفي ناله الكثير من التغيّر الملحوظ مع الزمن : حاولْ أن تتخيّل أعمال ديكارت من غير وجود علم غاليليو حول السماوات ، ربّما لم نكن حينها سنحصل على أعمال ديكارت الشهيرة تأمّلاتٌ في الفلسفة الأولى ، أو مقالة في الطريقة . "كانت " و " هيغل " هما الآخران ربّما كانا سيتعاملان مع أسئلة الإرتقاء والتأريخ بطريقة مختلفة تماماً لو لم تحصل الثورة الفرنسية . كتابات فيتغنشتاين ، المبكّرة منها والمتأخّرة ، مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بعوالم فيينّا وكامبردج . الفلسفة مسعى جمالي أيضاً ، وهذا كلام معادلٌ للقول أنّها تُبدي إستجابة للموضوعات الخاصة بالشكل ( ويقع ضمن ذلك شكل الكتابات الخاصة بالفلسفة ذاتها ) وكذلك الموضوعات الخاصة بفكرة الجمال ( تفكّرْ ملياً في أفلاطون ، توماس الأكويني و كانْت ) ؛ هنا يكون في غاية الأهمية فهم الأسباب الكامنة وراء إستخدام هيوم لكلّ من المقالة والحوار ( مثال : حواراتٌ بشأن الدين الطبيعي ) ، وتقديم نيتشه لكتابه العلم المَرِح Gay Science بسلسلة من الشعر المقفّى على الطريقة الألمانية ، ولجوء روسو إلى النوع الأدبي المسمّى أدب الإعترافات ، ولجوء فولتير إلى كتابة سيرته على شاكلة " حكاية فلسفية " أو مايسمّى Conte Philosophique وهو مانجده في أعمال Zadig **** و L’Ingénu***** . يمكن بمختصر القول التصريحُ بأنّ الموضوعات ذات الأهمية العظمى التي أشبِعت نقاشاً بشأن العلاقات بين الأدب والفلسفة هي موضوعات قلّما يمكن حسمُها من خلال محض تعريفها بأنها أشكال من الكتابة متباينة تبايناً كلياً ، وتعمل هذه المقدّمة على الكشف عن طائفة من العلاقات وليس عن طائفة من الأشياء المعرّفة تعريفاً صارماً ؛ وبهذا يمكن عدّ هذه المقدّمة مساءلةً فيما سمّاه ستانلي كافل " طائفةٌ من الموضوعات التي لانهاية لها " .
هوامش المترجمة
* السلك The Wire : مسلسل جريمة درامي تلفازي أميركي تضمّن 60 حلقة واستمرّ لخمسة مواسم ( من حزيران عام 2002 وحتى آذار عام 2008 ) .
** السونيتة Sonnet : أحد أهم أشكال الشعر الغنائي الذي إنتشر في أوروبا في العصور الوسطى . تتألف السونيتة من أربعة عشر بيتًا بأوزان معروفة وتركيب منطقي ، واهتمت بمعالجة بعض الموضوعات مثل الحب العفيف .
*** الخطبة الشهيرة التي ألقاها الشاعر جون ملتون أمام البرلمان الإنكليزي عام 1644 ودافع فيها بأدلّة حجاجية قوية عن أهمية حرية الكلام والتعبير ومناهضة كلّ أشكال القمع والرقابة . تعدّ هذه الخطبة بين أكثر المدوّنات النثرية التأريخية أهمية في بيان الدفاع الفلسفي عن حقوق الأفراد في التعبير .
**** Zadig : صادق أو كتاب القدر (Zadig ou la Destinée ) هي رواية شهيرة وعمل من وحي الخيال الفلسفي الذي كتبه الفيلسوف التنويري فولتير ونشره عام 1747 ، وهو يروي قصة صادق ، الفيلسوف في بابل القديمة . لم يحاول المؤلف أن يراعي الدقة التأريخية، وبعض المشكلات التي واجهها صادق هي إشارات مضمنة للمشاكل الإجتماعية والسياسية في زمن فولتير نفسه . تعتبر الرواية فلسفية في طبيعتها، وتظهر حياة الإنسان كما هو الحال وهي بيد القدر وخارجة عن سيطرته .
***** L’Ingénu : رواية قصيرة ( نوفيللا ) ساخرة كتبها المؤلّف الفرنسي الأشهر فولتير ونُشِرت عام 1767 . تحكي الرواية عن ( طفل الطبيعة ) الذي عبر المحيط الأطلسي متّجهاً نحو بريطانيا ثمّ فرنسا .