شاكر لعيبي
هل يهتم المتثف العربي بمشكلات الإيكولوجيا: البيئة والمناخ ومصير الكوكب، كما يهتم اليوم الكثير من مثقفي العالم؟
لعلّ مفهوم الثقافة في العالم العربيّ يحتاج تصويباً، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الممارسة الأعرض تُعتبر الأدب والفن والنقد الأدبيّ والفكر، وحدها تقريباً، واقعة في نطاق الثقافة. لن توافق منظمة اليونسكو على هذه الحدود لمفهوم الثقافة. بالنسبة لها، تُعتبر الثقافة بمعناها العريض: "مجموع السمات المتميّزة، روحياً ومادياً وفكرياً وعاطفياً التي تسِمُ بميسمها مجتمعاً أو فئة اجتماعية. ما عدا الفنون والآداب، تنطوي الثقافة على نمط الحياة والقوانين الأساسية للكائن البشري وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات". وبعبارة أخرى فإن هذا التحديد للثقافة الذي يَعتبر الآداب والفنون مجرّد عنصرين من بين عناصر تأسيسية كثيرة أخرى لها، يدفع للتأمل فيها على اعتبارها، في المقام الأول، نمطاً للعيش وأنساقاً للقيم والتقاليد والمعتقدات. وهذه كلها تشتغل صُراحاً على نطاق عريض في جُلّ مفاصل الحياة الاجتماعية وغيرها، بينما لا تشتغل الآداب والفنون إلا في نطاق النخب الضيقة. لعلّ من الواجب أن تضيف اليونسكو العلومَ إلى تعريفها، فتقول مثلاً (ما عدا الفنون والآداب والعلوم الصرف). لكن تعريفها يطرح الأسئلة عن معنى الثقافة في العالم العربيّ، وخاصة مفهومه واسع الانتشار عن (الكتابة) الأدبية، الشعرية والروائية والترجمية، بصفتها العمود الفقريّ للثقافة. يبدو أن هناك أنواعاً واهتمامات أخرى سوى الأدبية الخالصة، مما يجري في نهر الثقافة العميق.
نكتب ذلك وفي بالنا قمة المناخ المنعقدة في بولندا شهر ديسمبر 2018، وقبلها نتائج قمة المناخ التي انتهت يوم 18 نوفمبر 2016 في مراكش المغربية، وانشغال العالم بهما، بأوساطه السياسية والعلمية والصحفية والفكرية. شارك في قمة مراكش مثلاً حوالي 20 ألف شخص يمثلون مختلف القطاعات الفاعلة في الكرة الأرضية. بينما غاب عنهما تماماً تقريباً (الوسط الثقافي العربيّ)، فقد ظل منشغلاً، كما تدلنا نشاطاته في الصحافة وعلى وسائط التواصل الاجتماعيّ، بما يُضيِّق مفهوم الثقافة ويحصرها في دوائر بعينها. لقد ظل حبيس وعي لا يُقارب مشكلات التغيّرات المناخية في نطاق ثقافيّ، إلا استثناءات قليلة لا يُعتدّ بها.
هذا غريب بعض الشيء، إذا اعتبرنا هذه المرة، أن الوسط الثقافي العربيّ العريض يتابع المستحدثات، وكذلك "الصرعات" في الفكر والأشكال الأدبية والمصطلحات الفكرية والنقدية، مثل الشذرة والهايكو والنقد الثقافيّ وقصيدة النثر والسخرية من "الممانعة" وتسفيه اليسار والشعر الحرّ، وتفضيل اليومي والطرفوي و"الباذخ" وسوزان برنار وبوكوفسكي والحداثة السائلة....الخ. فلماذا لم تكن ثقافة المناخ بعضا من هذه "الصرعات الباذخة" مع غوايتها وشموليتها وتأثيرها المباشر على مصائر الكائنات الحية في أرجاء الكوكب الأرضيّ؟
ثمة العديد من المنظمات (الأيكولوجية) غير الحكومية، في العراق بعد 2003 ومثلها في تونس بعد 2011، وكلها انبثقت متأخرة، واكتشفتْ فجأة أن المحيط البيئيّ مُهدَّد وأن الطبيعة ملوَّثة، وإننا بحاجة إلى الانضمام إلى جماعات الأمم المتحدة العاملة في هذا المجال، ليس دائماً عن قناعة راسخة وضميرية، إنما من أجل مال الـ (أو أم جي) الذي انسرب، في غالبية الحالات العراقية باتجاهات مريبة. سيقول لنا مُتابع تونسيّ لمنظمات المجتمع المدنيّ، المتوالدة بعد الثورة توالداً فريداً، أين تذهب أموال منظمات البيئة المحلية المدعومة دولياً؟ لسنا، ها هنا، في ثقافة البيئة إنما في مداخيل البيئة والإفادة الشخصية منها. مهزلة كبيرة.
لن تجد من ينظوي تحت تسمية المثقف، في العالم العربيّ، إلا الشاعر أو الروائيّ أو الرسّام أو الناقد، واليوم جيش عرمرم من المُحللين والباحثين الاستراتجيين والعسكريين، الذين يشتغلون تحت الطلب. مواقع شبكة الأنترنيت العربية أيضاً، مهمومة بثلاثيّ (السياسة) و(الرياضة) و(الأدب) وفق متطلبات مواطنٍ متوسط الثقافة، كما يُقال. وإذا وجدتَ موقعا باسم "غرين أيريا" لباسم قنطار، فهو من النادر، المجهول إلا من طرف ثلة من المتابعين الذين لا يعتبرهم (الوسط الثقافيّ) من (الفاعلين الثقافيّين) وفق الترسيمة الحالية السائدة.
ثقافة التغيُّر المناخيّ تقع في صلب الثقافة.