شاكر لعيبي
أليس مثيراً أن يكون معنى السفر الأصلي واقع في الكنس والكشف، بمعنى ما ينكشف من وجه الأرض بعد كنسها؟
نحن لا نؤول "لسان العرب"قدر ما نتابع التحولات الدلالية لبعض الأفعال وصولاً إلى رسوخها في حقل الاستعارة التي يُنسي معها المعنى الحقيقي الأول للأفعال. هذا التحوّل يُرسُّخ الدلالات في نسق شعريّ، في الشعرية.
في اللسان أن سَفَرَ البيتَ وغيره يَسْفِرُه سَفْراً: كنسه. والمِسْفَرَةُ هي المِكْنَسَةُ، وأَصله الكشف. والسُّفَارَةُ، بالضم: الكُنَاسَةُ. وقد سَفَرَه: كَشَطَه وسَفَرَت الريحُ الغَيْمَ عن وجه السماء سَفراً فانْسَفَرَ: فَرَّقَتْه
فتفرق وكشطته عن وجه السماء؛ وأَنشد:
سَفَرَ الشَّمَالُ الزِّبْرِجَ المُزَبْرَجا
والرياح يُسافِرُ بعضها بعضاً لأَن الصَّبَا تَسْفِرُ ما أَسْدَتْهُ الدَّبُورُ والجَنُوبُ تُلْحِمُه. والسَّفير: ما سقط من ورق الشجر وتَحَاتَّ. وسَفَرَتِ الريحُ الترابَ والوَرَقَ تَسْفِرُه سَفْراً: كنسته، وقيل: ذهبت به كُلَّ مَذْهَبٍ. والسَّفِيرُ: ما تَسْفِرُه الريح من الورق، ويقال لما سقط من ورق العُشْبِ: سَفِيرٌ، لأَن الريح تَسْفِرُه أَي تكنُسه [وهنا المعنى الأصلي لمفردة السفير الشائعة اليوم بمعنى دبلوماسيّ]؛ قال ذو الرمة:
وحائل من سَفِيرِ الحَوْلِ جائله
حَوْلَ الجَرَائم، في أَلْوَانِه شُهَبُ
ويقال: انْسَفَرَ مُقَدَّمُ رأْسه من الشعر إِذا صار أَجْلَحَ. والانْسِفارُ: الانْحسارُ. يقال: انْسَفَرَ مُقَدَّمُ رأْسه من الشعَر. وفي حديث النخعي: أَنه سَفَرَ شعره أَي استأْصله وكشفه عن رأْسه. وانْسَفَرَت الإِبل إِذا ذهبت في الأرض.
بعد هذه المقدمة فقط يشرح لنا اللسان لماذا يتصلُ فعل السفر المعروف (الارتحال) بهذا الكنس. يقول: والسَّفَرُ: خلاف الحَضَرِ، وهو مشتق من ذلك لما فيه من الذهاب والمجيء كما تذهب الريح بالسفير من الورق وتجيء، والجمع أَسفار. ورجل سافرٌ: ذو سَفَرٍ، وليس على الفِعْل لأَنه لم يُرَ له فِعْلٌ؛ وقومٌ سافِرَةٌ وسَفْرٌ وأَسْفَارٌ وسُفَّارٌ، وقد يكون السَّفْرُ للواحد؛ قال:
عُوجي عَلَيَّ فإِنَّني سَفْرُ
والمُسافِرُ: كالسَّافِر. والسَّفَرُ قطع المسافة، والجمع الأَسفار وسمي المُسافر مُسافراً لكشفه قِناع الكِنِّ عن وجهه [والكِنُّ هو كلّ ما يُستتر فيه سواء أكان غارًا أو مكانًا عاليًا أو بيتًا منحوتًا]، ومنازلَ الحَضَر عن مكانه، ومنزلَ الخَفْضِ عن نفسه، وبُرُوزِهِ إِلى الأَرض الفَضاء، وسمي السَّفَرُ سَفَراً لأَنه يُسْفِرُ عن وجوه المسافرين وأَخلاقهم فيظهر ما كان خافياً منها. وسافرت إِلى بلد كذا مُسافَرَة وسِفاراً؛ قال حسان:
لَوْلا السِّفارُ وبُعْدُ خَرْقٍ مَهْمَةً،
لَتَرَكْتُها تَحْبُو على العُرْقُوبِ
والمسافرون: جمع مسافر، والسَّفْر والمسافرون بمعنى.
تتجلى أخيراً فكرة الكشف في الفعل سَفَرَ بالقول مثلاً "أسفر عن وجهه" أي كشفه، ولا مزيد على ذلك في جلاء فكرة الكنس والكشف.
أن وقوع مفهوم (الانكشاف) في صلب فكرة السفر يمكن أن يعيد تقييم مجمل الأدب الرحليّ والسفاريّ في التراث، ذلك أن المفهوم يصوّب بالضرورة إلى انكشاف داخليّ، روحي ونفسيّ عند المسافر وليس ارتحالًا جغرافياً أو فيزيقياً فقط. المُرتحِل يكشف أثناء ارتحاله قناعاً عن وجهه، والرحلة محض ذريعة لتنحية القناع.