شاكر لعيبي
أعود إلى التعبير القرآنيّ "فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ"، وأعاود اعتقادي بإن الدهان مصطلح من مصطلحات الطلاء والتلوين (وفي الغالب تقنية من تقنيات التصوير)، منذ القرن السابع الميلادي في الأقلّ.
وأتوقف هذه المرة أمام بيت كُثير عزة:
إذا ما لوى صِنْعٌ به عربية _ كلون الدهان وردة لم تُكمَّتِ
والبيت موجود في قصيدة لكثير عزة يرثي فيها عبد العزيز بن مروان مطلعها:
أأطلال دار بالنياع فحُمّتِ _ سألت فلما استعجمتْ فعمّت وأصْمتِ
وهو الديوان الذي جمعه وشرحه د. أحسان عباس، دار الثقافة، بيروت عام 1971، ص324، ويفسِّر عباس الصِّنْع على أنه الخيّاط عربية أو عدنية، أي الصانع، وقد خرَّج الباحث النص من مضان عديدة، منها ما يتعلق بالبيت رقم7 الذي يعنينا، ومن بينها لسان العرب لابن منظور (1232 م - 1311 م) تحت مادة (كمت).
والبيت من شواهد "المحكم والمحيط الأعظم" لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، ت عام 458 هـ (1066م)،[1] وفيه يقول ابن سيده:
وقد كُمِّتَتْ: صُيِّرت بالصَّنْعة كُمَيْتاً. قال كثير عزة:
كلون الدهان وردة لم تُكَمَّتِ.
ومن شواهد "المُخصّص" لابن سيده[2]، قال :
"وقيل في قوله تعالى( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)، أي صارت كلون الورد، وذلك يوم القيامة تتلون من الفزع الأكبر تلوُّن الدهان المختلفة يدل عليه قوله تعالى "يوم تكون السماء كَالْمُهْلِ" [المعارج]8: أي الزيت الذي أُغلي، وقيل الدهان هو الأديم الأحمر قال كثير :
إذا ما لوى صنع به عدنية _ كلون الدهان وردة لم تكمتِ".
ومن شواهد "تاج العروس من جواهر القاموس"[3]، قال:
"وقد كُمِّتْ إذا صارت بالصنعة كُمَيْتاً. قال كثير عزة:
كلون الدهان وردة لم تُكَمَّتِ".
مما يجلب الانتباه هو قول الشرّاح بأن العمامة (أو الثوب) قد صارت بالصنعة ذات لون وردي أو كُميت. يتعلق الأمر إذنْ بعمل حرفيّ صناعيّ صباغيّ. وهذا أمر في غاية الأهمية في السياق الحالي.
البيت المذكور متقدّم في الزمان، فإن كُثير بن عبد الرحمن الملاحي، المعروف بكثير عزة وُلد في المدينة عام 660م تقريباً، وتوفي عام 723م، أي بداية القرن الثامن الميلاديّ. والبيت يعاود قول دهان الآية القرآنية بطريقته. هل ثمة مجال للشك بنسبة البيت لكثير؟ هل ثمة تصحيف في البيت؟ هل ثمة تصحيف قبل ذلك في نصوص القرن السادس الميلادي؟ لم أجد من يُلمّح لذلك. إذا كان البيت صحيحاً فإن كُثير العصر الأمويّ قريب من روح النص القرآني ويعرف خفاياه.
مفردة دهان مستخدمة، كما أشرنا سابقاً، منذ العصر الجاهلي بمعنى الطلاء. ما طبيعة هذا الطلاء؟ هل هو طلاء ساذج بالزيت وحده مثلاً؟ بالأصباغ الدهنية الملوّنة؟ كلاهما غالباً حسب الحالة. بيت كثير يدلّ على لون. أما البيت الوارد في قصيدة لامرئ القيس :
ِكأنهما مزادتا مُتعجِّل _ فَرِيّان لما تُدهنا بدهانِ
من قصيدة مطلعها :
لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرتُهُ فَشَجَاني
كخط زبور في عسيب يمانِ
وفي رواية أخرى :
كأنهما مزادتا مُتعجّل
فرِيّان لمّا تُسلقا بدهانِ
ففيه نفهم جيداً أن العرب تسمى ما يُدهن به دهانًا، وهو مفرد، وليس ما يُؤكل بالضرورة (السمن). أما المَزَادَةُ فهي وعاءٌ يُحْمَلُ فيه الماء والزاد في السفر، كالقرية ونحوها. تَعَجَّلَ السَّفَرَ تَكَلَّفَهُ عَلَى عَجَلَةٍ. فَرَيْتُ الشيء أفْريهِ: قطعته لأصلحه. وفَرَيْتُ المزادة: خلقتها وصنعتها. والفَرِيُّ مِنَ الأمُورِ المُخْتَلَق. إِنَّهُ لَأَمْرٌ فَرِيٌّ أي لَأَمْرٌ عَجِيبٌ. "قَالُوا يَا مَرْيَمَ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً»( قرآن مريم 27).
وقد قٌدّمتْ شروح متعددة للبيت. (مزادتا متعجّل) هما اللتان فُرغ من عملهما ولم تُدهن مواضع خرزهما ليكون ذلك أكثر لسيلانهما تارة أخرى. ويشرحه ابن فارس في "مقاييس اللغة، ج3"، بقوله :
سلقت المزادة إذا دهنتها.
ويشرح البيت في ديوان الأدب، ميزان اللغة معيار الكلام ص550 م لأبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي، ت 350 هـ، تحقيق محمد السيد عثمان، ج1، بقوله :
يقول كأن العينين في سيلانهما مزادتان خرزتا فلم يُليَّنا بالدهن فتنسد عيون خرزهما.
يتعلق الأمر هنا أيضاً بطلاء. أي نوع من الطلاء؟ هذا ما يستحق إجابة عبر مصادر اخرى وعلى رأسها المصادر المتأخرة، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، ,وبعضها بدأ باستخدم دهان بالجمع، دهانات أي أصباغ ملونَّة، مثل خطط المقريزيّ (1364م - 1442م) وكتاب ابن دقماق (1349 - 1407م) المعنون (الانتصار لواسطة عقد الأمصار) الذي يشير إلى دهان بعض أبنية القاهرة في عصره وقبل عصره بالألون ومنها إشارته إلى «دهان أخضر»، وسأعود لذلك.
[1] تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية بيروت 2000، الجزء السادس، ص873.
[2] ، تحقيق د. عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت الجزء الثالث، ص204
[3] لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، الملقّب بمرتضى الزبيديّ المتوفى عام 1205هـ (1790م). اعتنى به ووضع حواشيه د. عبد المنعم خليل إبراهيم والأستاذ كريم سيد محمد محمود، دار الكتب العلمية بيروت، الجزء الخامس ص38 مادة كمت