الأفعال "الجوهرية" بصفتها محمولات للشعرية
شاكر لعيبي
لعل من تابع أو يتابع ما نكتبه على صفحات "المدى" يستخلص أن الهدف من مراجعتنا للسان العرب يتمحور حول نقطة رئيسية تتعلق بدلالة "الشعرية"
عبر الاستخدام الاستعاريّ واسع النطاق لمفردات وأفعال المعجم، كأن هذا الاستخدام الاستعاري هو قاعدة العربية، وبالتالي لكأنّ لغة العرب تقوم على الاستعاريّ وليس الدلالة الحقيقة للمفردات. وفي ذلك ما يمنح العربية، منذ البدء طاقة تعبيرية "شعرية". نحن نعرف السجالات التقليدية بشأن "الحقيقيّ" و"المجازيّ" في لغة القرآن، ونعرف الملاحظات الحديثة التي ذهبت ببعضهم إلى القول إن لغة العرب أقل دقة من غيرها من اللغات مع ما يستتبع ذلك من نتائج في الحقل العلمي مثلاً. مثل هذا السجال ليس من طبيعة سجالنا الواقف، حصرياً تقريباً، عند تخوم الشعرية الضاربة في أصول استخدام المعجم، وعن معنى ودلالة الشعرية في اللسان العربيّ.
توقف استقصاؤنا عند الزعم أن ما أسميناه "الأفعال الجوهرية" أو الافعال الوجودية الضاربة في النشاط الإنسانيّ قد تكون بطبيعتها مُولِّدة للاستعاريّ والشعريّ، وتوقفا أمام أفعال مثل "أكل" و"شرب" وقبلهما الفعل (ضرب). وذكرنا أن الُمعترِض سيقول إن مثل هذه الأفعال وغيرها في اللغات الأخرى (وسنأخذ الفرنسية مثالاً) تتعرض لاستخدامات مجازية مماثلة. هذا صحيح.
ففي الفرنسية الفعل أكل يُستخدم مجازيًا على نحو عريض، فالتعبير "أَكَلَ الربّ الطيب":
Manger le Bon Dieu.
يشير إلى تناول العشاء الربانيّ، وهو مستخدم في الفرنسية منذ عام 1828. والتعبير "أكل الصوف على ظهر أحدهم":
Manger la laine sur le dos de qqn.
يشير إلى لوم الذات، عدم معرفة كيفية الدفاع عن النفس، كون الإنسان في غاية الطيبة، استغلال شخص ما والاستفادة منه، وهو مستخدم في الفرنسية منذ عام 1899. والتعبير "قد أكل أسداً":
Avoir mangé du lion.
أي كثير الطاقة، وهو حديث نسبياً على ما يبدو. والتعبير "أكل البقرة المسعورة":
Manger de la vache enragée.
بمعنى العيش في البؤس والحرمان وهو من القرن الثامن عشر الميلادي. والتعبير "يأكل كلماته" أو "لا يمضغ كلماته":
Manger ses mots.
Ne pas mâcher ses mots
الاول بمعنى يغمغم ويطمطم، والثاني يتكلم بصراحة فائقة، وهو يرقى للقرن السابع عشر الميلادي، والتعبير "أكل الأنف» أو أنفه:
Se manger le nez.
أي يصارع ويجادل وإنه في شجار، وتشجيع على القتال، وهو يعود غالباً لعام 1842. والتعبير "أكلوا بياض عيونهم":
Ils se sont mangé le blanc des yeux.
أي يتصارعون ويتجادلون وهو من عام 1760م. ثم التعبير"الأكل بالقبلات أو المداعبات [كأَكَلَها بالقبلات]:
Manger de baisers, de caresses.
أي اللمس برقة وبطريقة حسّاسة، وهو في الغالب من عام 1853. ومثله التعبير "أكله الحسد" أو الشغف:
Être mangé par la jalousie, la passion. 1899 ?
ولعله من عام 1899م ومؤخرا "أكل الكيلومترات":
Manger des kilomètres.
أي نهب المسافة نهباً.
الملاحظة الأولى تتعلق بحداثة الاستخدمات الفرنسية، مقارنة بقِدَم الاستخدامات العربية التي بعضها موصول بالقرآن أي منذ القرن السادس للميلاد.
هل اللاتينية الأولى التي تصدر عنها الفرنسية اللاحقة، خلو من الاستخدمات الاستعارية؟ كلا دون شك، لكن الشك يظل يراودنا باتساع رقعتها وطبيعتها مقارنة بخصيصتها الاستعارية اللصيقة بلغة العرب، حتى أن فرضيتنا تذهب إلى القول إن العربية لغة مجازية بالأحرى. علينا الاستعانة بقراءاتنا لما ترجم من اللاتينية، وقبلها الأغريقية من نصوص أدبية، وقراءة المتخصصين بشأن المجاز والاستعارة في الأغريقية واللاتينية لكي نقارب اتساع المجازي في المعجم العربيّ بانضباطه واحتشامه في المعجمين موضوع المقاربة.
مشروع المقاربة من الاتساع بحيث لا يمكن إلا مجموعة من الباحثين الشروع به، مما لا يُحيِّد الفرضية الحالية: العربية لغة مجازية واستعارية، الأمر الذي سمح لمفرداتها من جهة أخرى بإضاءات كبرى من جهات عدة للحقيقيّ. وهنا ثانية تقع بعض شعرية لسان العرب.