شاكر لعيبي
منذ أن كتبتُ "السوريالي الأول: أبو العبر الهاشمي"، وأنا أشدّد أن النماذج والنصوص التي قد تشابه ما كتبه أبو العبر،
لا تتعلق بالضرورة بمفاكهات وطرف ومجون كما فُهم أبو العبر نفسه غالباً، إنما بنزوع إرادي ويكاد أن يكون واعياً في الانحراف باللغة. وتساءلتُ فيما إذا كان سليماً إطلاق على تلك النصوص أعمالاً سوريالية؟ واعتقدتُ أن الأمر يتعلق بالطريقة التي نفهم بها دلالة المصطلح الذي سمح لبروتون مثلاً بإدراج أسماء سابقة وبعيدة تاريخياً واعتبارها من السوريالية.
أريد الآن التشديد على بعض البلاغة السوريالية بل الحديثة، ورؤية حضورها الحرفي في نصوص عربية قديمة. أعني تلك (الكناية) القائمة على مضاف ومضاف إليه، الأولى من طبيعة حسية ومادية والثانية من طبيعة معنوية. دمج العنصرين سيمنحنا عبارة من قبيل "جناح الذلّ" القرآنية. سُمّيت الاستعارة المكنية أو الاستعارة بالكناية. نعرف الحكاية المشهورة التي تقول ان أحدهم أراد إحراج أبي تمام فأتى إليه بقارورةٍ فارغةٍ، وقال : أعطِني شيئاً من ماءِ الملام في إشارةٍ إلى قوله "لا تسقِني ماءَ الملام" فقال له أبو تمام: فأعطِني ريشةً من جناحِ الذُّلِ في إشارةٍ إلى النص القرآنيّ "واخفضْ لهما جناح الذُّلِ من الرحمة". وكان قد كَثُر استخدام هذه الكناية في شعر أبي تمام، ثم شعراء العصور الإسلامية المتأخرة. في قصائد إبي تمام: جَمْرِ الوَدَاعِ، سَيْفَ الحق، ذَهَبَ المعاني.... الخ. اليوم انتشر وشاع هذا الاستخدام وفي الشعر العربي الحديث ثمة أفراط في الاستخدام الذي كأنه يركن إلى مخيّلة جاهزة أساساتها لغوية مصنوعة صنعاً منذ البدء: صَحراء الأبديّة، مائدة الأوان، فجاج اللاشيء، حائط المنسيِّ، رماد القهقهة،.....الخ.
هذه النوع من الكناية أو الاستعارة المكنية الذي يستهدف جوهرياً خلق "مادة تخيُّلية جديدة" أمر قديم، ولا مجال لاستهجانه إذا لم تقم القصيدة كلها أو جُلها عليه بشكل رئيسيّ. في العصور العباسية، منذ زمن الجاحظ، صارت هذه الكناية "بلاغةً" موضوعة وبشكل أساسي لخلق "مادة طرفوية" في جوهر الأمر، بسبب قدرة هذا المضاف والمضاف إليه القادمين من حقلين متباعدين على استنهاض كناية صادمة بطرفتها. وهكذا كان يُنظر إليها. في رسالة الجاحظ العاشرة "رسالة في صناعات القواد" وهو يسرد حديثاً في مجلس المعتصم، وعندما سؤال أشخاص من مهن مختلفة (وهذه ذريعة لاستحضار حقول دلالية متباعدة) عن الحرب، قال جعفر الخياط:
فتقت بالهــــجر دُروز الهوى إذْ وخزتني إبرةُ الصّدِّ
جشَّمتني يا طيلسان النوى منك على شوزكتي وجدي
أزرار عيني فـــــيك موصولة بُعروة الدمع على خدِّي
يا كستبان القــــــــلب يـا زيقه عذَّبني التَّذكار بالوعدِ
قد قــصَّ ما يعـــهد من وصله مقراضُ بينٍ مُرهفُ الحدِّ
يا حُجزة النَّفـــس ويــا ذيلها مالي من وصلك من بُدِّ
ويا جــربَّان سُـــــــــروري ويا جيب حياتي حُلْت عن عهدي
وقال إسحاق بن إبراهيم الزرّاع:
زرعت هواه في كراب من الصفا - وأسقيته (ماء الدوام) على العهد
وقال فرجاً الرخَّجيَّ وكان خبَّازاً:
قد عجن الهجر دقيق الهوى في جفنةٍ من خشب الصدِّ
واختمر البــــــين فنار الهوى تذكى بسرجينٍ من البعدِ
وأقبل الهجر بمـــــحراكه يفحص عن أرغفة الوجدِ
جــرداق الموعـــد مســـومـــــــة مثرودة في قصعة الجهد
وقال عليّ بن الجهم بن يزيد، وكان صاحب حمام:
يا نورة الهجر حلقت الصَّفا لما بدت لي ليفة الصَّدِّ
يا مئزر الأســــقام حتَّى متى تُنفع في حوض من الجهْدِ
أوقدْ أتون الــــوصل لي مرّةً منك بزنبيلٍ من الودِّ
فالبينُ مُذْ أوقد حمـــــــــــــــــامه قد هاج قلبي مسلخ الوجدِ
أفسد خِطميَّ الصفا والهوى نُخالة النَّاقض للعهدِ
وقال أحمد الشَّرابيَّ:
شربت بكأس للهوى نبذة معاً
ورقرقت خمر الوصل في قدح الهجْرِ
فمالت دنان البين يدفعها الصِّبا
فكسَّرن قرَّابات حُزني على صدري
وكان مزاج الكأس غُلَّة لوعةٍ
ودورق هجرانٍ وقنِّينتيْ غدرِ
كان الهدف من تلك الكنايات إضحاك المستمعين ولكنها أثارت في أذهانهم، دون شك، عوالم غرائبية، غير منطقية، أو "مُحالات جمع مُحال" كما قيل بشأن أبي العبر الهاشمي، دفعتهم للتندُّر. اليوم لا تختلف طبيعة تلك الكنايات في بعض بلاغات الشعر العربيّ الحديث، بالحرف، مع أن الهدف أكثر جدية وتجهّماً، كما نزعم، أعيد قراءة البيت:
شربت بكأس للهوى نبذة معاً
ورقرقت خمر الوصل في قدح الهجْر
لأرى الفارق، فلا أرى فارقاً عظيماً.