الفيدرالية تكريس للوحدة والخيار الديمقراطي
إن التلازم بين الديمقراطية والحقوق القومية للشعب الكردي في العراق، تلازم موضوعي، يبرهن عليه بمنتهى الوضوح رصيد التجربة التاريخية،
ومسيرة تطور الحركة الوطنية العراقية، وبشكل خاص منذ انتكاسة ثورة (14) تموز، وصعود الانقلابيين المتطرفين إلى سلطة الدولة في (8) شباط (1963).
والجوهر الموضوعي لهذا التلازم تبلور في مجرى تطور الكفاح العالمي، من أجل حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها واختيار سبل تطورها المستقل، وحق الإنسان في أن يكون سيد نفسه المطلق، وقد نص ميثاق الأمم المتحدة الذي يعتبر دستور العالم، على هذه الحقوق للإنسان، وللأمم والشعوب، وهي حقوق تقرها جميع المواثيق والمعاهدات الدولية.
وتكتسب التجربة العراقية خصوصيتها المتميزة في تأكيد الطابع الموضوعي لهذا التلازم وضرورته، إذ دللت في مراحلها المختلفة على أن مواجهة الشعب الكردي وإنكار حقوقه القومية، كان دائماً المدخل لضرب الحركة الوطنية وتصفية أي مظهر للديمقراطية، ووضع البلاد على طريق الاستبداد والتسلط. كما كان التصدي للحركة الوطنية ورفض مطالبها في إطلاق الحريات الديمقراطية، الوجه الآخر للوثوب على الحركة القومية الكردية والتعامل معها بوسائل العنف العسكري، وتوظيف العمليات العسكرية لتوسيع دائرة القمع وإشاعة نهج الإرهاب والتصفيات السياسية والجسدية.
وكان من حظ الدكتاتوريات المتعاقبة في العراق، خلافاً لمثيلاتها العربيات، التعكز على “خرّاعتين” لإبقاء الشعب العراقي أسير قوانين الطوارئ الاستثنائية..، “خرّاعة القضية الفلسطينية” وما تتطلبه من التزاماتٍ قوميةٍ للتعبئة في مواجهة إسرائيل، “وخراعة الحفاظ على وحدة العراق” من خطر النزعة الانفصالية لدى الأكراد!
لكن صدام حسين “القومي العروبي” المعادي للإمبريالية” بامتياز!، لم يتعفف عن التواطؤ مع شاه إيران حليف إسرائيل ونافذته على العالم العربي والإسلامي والتنازل له عن السيادة على شط العرب، في إتفاقية الجزائر التي وقعها معه عام (1975) برعاية كيسنجر والمخابرات الأمريكية. كما لم يتردد في طلب الدعم وقبوله من الدوائر الغربية ودول الخليج (التي كان يتهمها بالعمالة) للوقوف معه في حربه الطاحنة المدمرة مع إيران. ولم يجد في التنسيق مع المخابرات المركزية التي كانت تزوده بالسلاح والمعلومات اللوجستية طوال سنوات الحرب، ما “يخدش” أو يتناقض مع “قومانيته” أو يثلم “عروبيته” بل وياللفضيحة... لم يجد فيها ذلك حتى مريدوه والزمّارون له من الأعاريب هذه الأيام في مختلف الأصقاع بل اعتبروها.. وياللفضيحة مرةً ثانية “مساهمةً أمريكانية” في الدفاع عن “البوابة الشرقية” في مواجهة خطر “الفرس المجوس”!
تعتبر مرحلة الحوار مع الثورة الكردية عشية إعلان اتفاقية (11) آذا ر (1970)، ومع قيادة الحزب الشيوعي العراقي للوصول إلى الصيغة الجبهوية المشؤومة، ابرز دليل على تلازم الحركتين الديمقراطية، والقومية الكردية.
فقد رفض صدام حسين (بتدبير مسبق) الاستجابة للجانب الكردي.بإشراك الحزب الشيوعي في الحوار، بل استغل فترة الحوار المذكور للانفراد بالحزب وتوجيه أشرس الهجمات ضد تنظيماته وتصفية العشرات من كوادره جسدياً واعتقال الآلاف من أعضائه وتعريضهم لصنوف التعذيب بهدف إسقاطهم سياسيا، توطئة لإرغام قيادة الحزب على القبول بشروطه في دخول الجبهة معه.
وعلى الجانب الآخر استغل صدام تحالفه مع الحزب الشيوعي، واستعادة اعتباره على الصعيد العربي والدولي وفي العلاقات مع الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية آنذاك، للانفراد بالحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني، والانقضاض على ثورة (21) أيلول ودفع البلاد إلى متاهات النظام الشمولي الاستبدادي دون أن يوفر قيادات حزب البعث نفسه.
إن التلويح بخطر الانفصال، وتعريض وحدة العراق إلى التفكك، كان دائماً مؤشراً سلبياً ومدعاة للتشاؤم السياسي. فالمتتبعون للحياة السياسية في العراق، يدركون بالتجربة بل وبالسليقة، إن هذا التلويح يشكل دائماً مقدمة للانقضاض على الديمقراطية وتصفية مظاهرها. وليس بمعزل عن ذلك، هذا التلاقي والتحالف والعمل المشترك ذي الطابع المصيري بين الحركة القومية الكردية والحركة الديمقراطية العراقية، وربط نضالهما وشعاراتهما بالديمقراطية كخيار وطني وضمانة أكيدة لتحقيق أهدافهما المشتركة.
وليس بمعزلٍِ عن ذلك أيضاً حرص القادة الأكراد على تأكيد خيار الوحدة العراقية، وإبراز طابعها الموضوعي بالنسبة لحركة الشعب الكردي لفضح وتفنيد مروجي اتهامه بالانفصال. والتشديد على هذا الجانب كلما تطرق البحث إلى الفيدرالية، وشرح جوهرها باعتبارها الصيغة العملية التي تعكس في الظرف الراهن الملموس حالة التنوع القومي في إطار الوحدة العراقية، ترمي لتحقيق هدفين مترابطين: الإستجابة لطموحات الكرد القومية، وتكريس وحدة العراق.
إن الاستنفار السياسي لبعض “قوى النفاق” الديمقراطي والقوماني في الداخل والتعبئة البالغة “التحسس والتوجس” في الخارج تتطلب التعامل معها “كناقوس” خطر لكل من يدعي أو يطمح أو يحرص حقاً على نقل العراق إلى مرحلة استعادة السيادة وإرساء الأسس الراسخة لنظام ديمقراطي قادر على الحياة والتطور، قويٌ بما يكفي للحيلولة دون تراجع هذا الخيار والانحراف نحو شمولية جديدة.
لقد توافقت الأحزاب والقوى قبل الإطاحة بالنظام البائد، وبعد إعلان مجلس الحكم على الفيدرالية كصيغة للنظام الديمقراطي يستند إلى الاتحاد الاختياري بين القوميتين الرئيسيتين وسائر القوميات والأطياف المتآخية.
وخلال السنوات العشر الماضية ترسخت الفيدرالية في الوعي السياسي بمضمونها القومي لا الجغرافي.
إن تبني الفيدرالية، يكرس الوحدة الوطنية، وبقدر تكريسها على أسس سليمة ومتينة، تضعف وتبتعد نزعات التعصب وضيق الأفق القومي وشوفينية الأمة الكبيرة، وتتراجع وتبتعد ميول الانعزال القومي والانفصال.
والحل السياسي العادل الملموس المتجسد في الفيدرالية التي تنطلق من الخصوصية القومية للشعب الكردي ولإقليم كوردستان، يجنب البلاد الإنزلاق مرة أخرى إلى منحدر الدكتاتورية والنظام الشمولي.
ولا بد من الانتباه إلى حقيقة أن التضحية بالحقوق القومية للشعب الكردي، لا تعزز كما يتوهم البعض مواقع القوى الناهضة لإقامة النظام الديمقراطي، بل تضعفها وتبدد طاقاتها، وتضعها في مواجهة بعضها البعض الآخر. في حين أن الاستجابة لهذه الحقوق تعزز مواقع هذه القوى وتمكنها من تحديد وجهة حركتها والارتقاء بها إلى مستوى المخاطر والتحديات المحدقة بها وبالنظام الديمقراطي المنشود.
فهل يستدرك البعض ممن تغريهم الأوضاع الملتبسة الراهنة، وربما تزين لهم التحلل من التزاماتهم، أو توحي لهم أن الديمقراطية آتية لا ريب فيها، وهي لا تحتاج إلى استرضاء الكرد!. أو الالتفات إلى قضيتهم التي يصعب فصلها أو عزلها عن قضية الديمقراطية نفسها. بل ويصعب أيضاً إن لم يكن يستحيل تحقيق الديمقراطية دون حل هذه القضية التي تعتبر من صلب الديمقراطية!
وفي كل الأحوال علينا أن نتوقف عن التعامل مع القضايا الكبرى كما كان يفعل صدام حسين كأرقام..، سواءً أكان الرقم صعباً أو قابلاً للقسمة.
لأن مصائر الشعوب والأمم لا تبحث بمنطق الأرقام، بل بمنطق ومعايير عصر الأمم والشعوب وحقوق الإنسان ودولة القانون!