فخري كريم
بعد دورتين تشريعيتين واستفتاء عام على الدستور، ووعود لم تنقطع وتعهداتٍ من قادة الكتل، بالتصدي لكل مظاهر الفساد والخلل في النظام الديمقراطي
والعمل على تصفية جذورها..بعد كل هذا، تزداد هذه المظاهر وتستشري. مما يدفع بالمواطنين إلى تكرار التساؤل حول طبيعة الأطراف السياسية المستفيدة من ذلك داخل العملية السياسية، مع أن مظاهر الفساد هذه تشكل المعول الذي يدك قواعد تلك الأطراف السياسية، وبما يؤدي بها إلى الارتداد
إذا ما استمرت على حالها هذه دون مواجهة حازمة.
وإذ أمست واضحة الأسباب التي تقيد مختلف الأحزاب الحاكمة، من تأشير الفاسدين "لصوص" المال العام وفضحهم وإحالتهم إلى القضاء، فإن حالات أخرى تكشف نفسها بنفسها علناً ولا تشكل ملاحقتها إحراجا لأحدٍ أو تهديداً لكشف مستورٍ في غير مجالٍ آخر من شأنه أن يمس آخرين.
إن التساؤل الذي يظل يتردد من دون انقطاع بين المواطنين وينال من صبرهم وثقتهم بما هو قائم، يتناول هذا الضعف الواضح فعلا في إمكانية تصفية أي مظهرٍ للخلل في بنية الدولة الهشة، وهي لا تزال في طور التكوين، كما يتناول باندهاش سر هذه الإرادة التي تحول دون إجراء التغيير اللازم لإنهاء الفساد، ولا ينتهي التساؤل عند هذا الحد، بل يتعداه إلى البحث عن مكامن القوة بين أطراف العملية السياسية التي يفترض وجودها لإماطة اللثام عنها لتمكينها بالدعم والإسناد والثقة بها، وهو يرى ويزداد اقتناعاً كل يوم أن الجميع متشاركون ومتواطئون في تكريس ما هو قائم وما هو منافٍ لمبادئ النظام الديمقراطي والأعراف والقيم التي يستند إليها وكذلك للمعتقدات والثوابت الإسلامية التي يجري الترويج لها باعتبارها، معتقداتهم وقيمهم السامية التي لا يحيدون عنها.
ولعله من باب التفاؤل، يتوقع المواطنون، أن يعلن طرف في الحكم، انه نفض عن نفسه تهمة الفساد، على سبيل المثال، فاكتشف أن قيادياً فيه أو وزيراً أو حتى موظفاً من غير الدرجات الواطئة في سلم الوظائف، متورطٌ بالتزوير أو بالرشوة أو بالفساد المالي أو الإداري فاتخذ بحقه إجراءً انضباطياً بالطرد من الحزب أو الكتلة، ولا يشترط في المكشوف عنه أن يكون من درجة القرابة الأولى أو الثانية أو العاشرة، بل لا بأس في أن يكون مقطوع الشجرة من حيث القرابة. لكن المواطنين يرون أن من غير المتوقع أن يعلن عن مثل هذا، رغم أن البيانات والتصريحات من كل طرف حاكم لا تتوقف عن الإشارة إلى تستر الأطراف الأخرى على لصوصها ومرابيها، وأن تلك البيانات والتصريحات تلوّح بأنها وعندما يحين الحين ستكشف عن المستور، ويبقى يثير الغضب والاستنكار أن المفتشين العامين في مختلف دوائر الدولة ومن النزاهة أيضا، يترصدون بين آونة وأخرى فقراء وجياعا من قاع الدولة فيلقون القبض عليهم متلبسين بتهمة تلقي رشوة بخمسة آلاف أو عشرة آلاف أو خمسين ألفا أو مئة ألف دينار!
المفتشون العامون وهيئات النزاهة وغيرها لا تتعامل مع الملفات المالية للوزراء وكبار الموظفين ولا قيود الوزارات والدوائر العليا الأخرى، ولا كيفية التعامل مع نفقات سفرهم ومخصصاتهم، ولا فيما إذا كانوا مدعوين على حساب الآخرين أم على حساب وزاراتهم، وهل يتمتعون بالمصاريف والمخصصات في الحالتين، وتحت أي مسوغ قانوني. يقيناً أن شيئاً من هذا لا يحدث، وان حقائقها معروفة ومتداولة، ونكاد نجزم أن الكل يعرف بما يجري من تجاوزات مالية في هذا الميدان المكشوف على الأقل، وان النزاهة تعرف حق المعرفة الحقائق الملموسة عنها كما تعرف كماً من الحقائق عن اللصوص والفاسدين والمتجاوزين على القانون.
وإذا افترضنا أن ملفات الفساد المالي والإداري معقدة وشائكة ويتطلب التصدي لكشفها جرأةً ومضاءً ونظافة يدٍ وتجرداً، فإن أركان الدولة منذ المغدور إياد علاوي حتى اليوم أعلنت عن تشكيل لجان من مستويات مختلفة للتحقيق في العديد من القضايا، ومنها قضايا الفساد وجرائم القتل والسطو على البنوك والعربات التي تنقل الرواتب وغيرها من الأموال وانتحال (أو استغلال) صفات أجهزة الأمن والمخابرات واستخدام آليات الشرطة والجيش في ارتكاب جرائم صارخة ضد المواطنين، ومنها ما تم ارتكابها في حملات جرت باسم مجلس محافظة بغداد ضد المواطنين المسيحيين ونواديهم، وشهادة شهود من أهلها بالتعرف على حاملي هوياتها وأشخاصها دون أن تسفر تحقيقات اللجان حتى عن حفظ الجرائم ضد مجهول، واللجان نفسها تشكلت وطواها النسيان دون تشييعها ولو بنعي خجول على الرأي العام ولتطييب خواطر أهالي الضحايا أو المنكوبين.
إن التجاوز على الدستور وعلى القوانين وعلى الضمير الوطني، لا حدود له ولا يتوقف على ميدان دون آخر، وهو إذ يمارس بأشكال خفية ويغض المسؤولون النظر عنه بما يُشبه التواطؤ، فإنه يُمارس علناً بما يشبه التحدي والاستهانة والتحقير. فالمناصب العليا التي تجري المساومة عليها بين الكتل وداخل كل منها، خارج المعايير التي يجري الإعلان عنها ليل نهار، تُداس ولا يراعى منها، لا معيار الكفاءة ولا النزاهة ولا نظافة اليد ولا الوطنية ، ويبقى الفيصل، هو التقاسم والمحاصصة والتشارك في المغانم بوصفها "القاسم الانتخابي المشترك". ولإيراد واقعةٍ لا تحتاج إلى شاهدٍ ولا إلى دليل، يصدم الرأي العام مشهد السيد طارق الهاشمي وهو يقدم نفسه كنائب لرئيس الجمهورية، يسافر إلى دول أجنبية بصفته هذه ويصدر بهذا العنوان مواقف وتصريحات ويوجه رسائل إلى الوزارات والدوائر، وينشر ذلك على موقعه الرئاسي، ويحتفظ بطاقمه الوظيفي الرئاسي ومكاتبه الرئاسية، كما لو انه نائب للرئيس.!، ويقال ان السيد عادل عبد المهدي يمارس الدور نفسه.
انه انتحال صفة رسمية لأعلى موقع سيادي في الدولة، مخالف للدستور ولقوانينه، يحاكم المنتحل وفقاً لـ(القرار160 لسنة ١٩٨٣) من قانون العقوبات المنشور في ٢٨/٢/١٩٨٣في الوقائع العراقية. وينص: "يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على ١٠ سنوات كل من انتحل وظيفة من الوظائف المدنية العامة أو من وظائف القوات المسلحة أو قوى الأمن الداخلي أو الأجهزة الأمنية أو الإستخبارية أو تدخل فيها أو أجرى عملا من أعمالها أو من مقتضياتها بغير حق وذلك دون صفة رسمية أو إذن من جهة مختصة".
إنني كمواطن احترم الدستور، رغم عدم قناعتي بالمواد التي لا تتماشى مع النظام المدني الديمقراطي، أتقاضى علناً أمام مجلس القضاء الأعلى أو أي جهة مخولة ضد منتحلي هذه الصفة الرسمية، والتي تنطوي على عدم توفر الأمانة المطلوبة لتولي أي مسؤولية في الدولة، وأطالب مجلس النواب أن يتصرف وفقاً لذلك مع أي مرشح يخرق الدستور ويتجاوز عليه.
ولا يمكن الشك بان من يتماهى مع نفسه ويمارس مثل هذا السلوك المناقض للدستور علناً ومع سبق الإصرار والتحدي، لا يتوانى عن التجاوز عليه والاحتكام الى ما تمليه عليه مصالحه ونوازعه، دون مراعاة لأي ضوابط أو مصالح غيرها، لأنه لا يعتبر تلك المصالح سوى تعبيرات بصيغ أخرى عما يراه هو ، كما يرى ذلك غيره من الحكام الذين لا يعتبرون الدستور والقوانين سوى رزمة أوراق قابلة للتلاعب وفقاً لما تقتضيه مصالحهم.
ولننتظر كيف سيتعامل ملوك وأمراء الطوائف مع هذه الظاهرة الخطيرة من انتهاك الدستور.