TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية:البحرين محوراً.... النظام الطائفي العربي يعمق الانقسام

الافتتاحية:البحرين محوراً.... النظام الطائفي العربي يعمق الانقسام

نشر في: 5 إبريل, 2011: 07:52 م

 فخري كريم

الطائفية، كما الاختلافات العرقية والعنصرية والتنوعات الأخرى ، كانت في أساس بنية الإمبراطورية العثمانية المهزومة والنسيج الحي لمجتمعات

" الولايات والأقاليم " العثمانية التي ورثها المستعمرون بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية .

وقد استثمرت بريطانيا وفرنسا هذا التنوع لتعتمدها في إقامة الكيانات العربية ، آخذتين بالاعتبار إقامة كل دولة عربية وهي تحمل في كيانها بذرة انقسامها وتفجرها ، وأرست بذلك احد أوجه سياسة "فرق تسد" التي اعتمدتها في العالم العربي ، منذ معاهدة سايكس بيكو.

لقد أصبح هذا التنوع الذي كان يمكن أن يكون عامل وحدة ، أداة للانقسام والفرقة والشكوكية في المجتمعات والدول العربية وعنصر تهديد لوحدة نسيجها الاجتماعي .. وقد غذى هذا الإنقسام التركيب المعقد للدول العربية التي لم يراع في إقامتها دور الأكثرية في السلطة السياسية وفي بناء الدولة أو مراعاة حقوق القوميات والأقليات الدينية والعرقية وغيرها ، مما جعل منها عامل تعميق للانقسام، وذلك في ظل غياب تام لمفاهيم اقامة الحكم والحقوق على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات، وهو غياب بقي ملاصقا لكل أنظمة الحكم التي أنشئت في ظل الاحتلالات الغربية أو في ظل الدكتاتوريات التي أعقبت تلك المرحلة .

كانت الدولة العراقية إحدى ضحايا تلك السياسة التي كرستها معاهدة سايكس بيكو واعتبرها القادة القوميون العرب انتصاراً لهم وقاعدة لوحدة الأمة ، دون أن يأخذوا بالاعتبار التعامل مع التنوع واستحقاقاته السياسية . بل اعتبر منذ ذاك أن أي حديث عن حقوق واستحقاقات خارج "القومية العربية" مؤامرة استعمارية وصهيونية ودعوة لتمزيق الأمة العربية والحيلولة دون انجاز وحدتها القومية .

لقد أقيمت الدولة العراقية ، بحدودها الراهنة ، لتضم العرب والكرد والتركمان والآشوريين ومكونات أخرى ، مسلمين ومسيحيين وإيزديين وصابئة ، حيث مثّل السكان الشيعة الأكثرية في الدولة ، لكن البريطانيين استوردوا لها ملكاً من الحجاز ، واستقدموا موظفين وعسكريين من كوادر الإمبراطورية المنهارة، حرصوا على أن يكونوا من لون مذهبي معين . وكان ممكناً أن تستقيم أمور الدولة الوليدة لو أنها أرسيت على قاعدة المواطنة ، وتكافأت الفرص فيها للمواطنين دون تمييز أو محاباة . لكنها على العكس من ذلك عمقت الانقسام في المجتمع وكرسته على أساس حكم أقلية طائفية وتمييز فض للأكثرية، وتعاملت مع أفرادها كمواطنين من الدرجة الثانية ، وهذا ما فعلته مع الشعب الكردي والمكونات الأخرى .

ورغم التركيبة السياسية المخلة التي ابتكرتها بريطانيا للعراق، فإنها لم تستطع إيجاد شرخ في المجتمع ،طوال فترة الانتداب، وكذلك في مراحل النضال الوطني ضد الاستعمار والمعاهدات الجائرة التي عقدتها بريطانيا مع الحكومات الموالية لها ، لان الهم الوطني والتشوف لانتزاع السيادة والاستقلال وانجاز المهام الملحة الملقاة على عاتق القوى الوطنية بمختلف مشاربها عطّل النوايا المبيتة لخلق فتن تضع العراقيين في مواجهة بعضهم البعض ،وإمرار السياسات والمعاهدات البريطانية والنهج الذي تواطأت الحكومات العراقية الصنيعة لها لفرضها على العراقيين . وطوال مراحل النضال الوطني ظل المجتمع العراقي متماسكاً،  توحده الإرادة الوطنية المشتركة لتحقيق الأهداف الوطنية والديمقراطية ، واقتصر التمييز الذي اتخذ صيغة عرف غير مقنون في المراتب العليا من هياكل الدولة وأجهزتها ، وحتى على هذا الصعيد لم يتخذ التمييز الطائفي ، طابعاً فاضحاً أو استفزازياً ، إذ شهدت المراحل المختلفة من العهد الملكي اختراقات، انعكست في تبوؤ شخصيات من مختلف المكونات لمراكز بارزة في الحكومة والجيش والقوات المسلحة ، بما في ذلك رأس الحكومة وقيادة الأركان والشرطة وغيرها من المواقع الحكومية. إن الإرادة الوطنية "من تحت" وقوة تأثير الحركة الوطنية التي أصبحت مرجعية سياسية للعراقيين في مواجهة الاستعمار والحكومات الموالية له ، أجهضتا المساعي الهادفة الى تفريق العراقيين وتشتيت جهودهم في المواجهة. لكن البريطانيين عملوا

على قاعدة أخرى موالية لهم من سائر الطوائف والمكونات، من خلال توزيع الأراضي الشاسعة التي خلقت طبقة الإقطاعيين والملاكين الكبار، وكذلك إغداقها الامتيازات على رجالات الحكومة والموظفين الكبار والفئات الموالية لها ، والفرص التي خلقت منهم طبقة ارستقراطية تمد الحكومة بكوادرها وتربط مصالحهم بوجودها ، وعبر ذلك إدامة تأييدهم في مواجهة الحركة الوطنية ونضالاتها .

 إن التغير الكبير الذي طرأ على المجتمع ونال من وحدته، ولو بصيغة جنينية ، ارتبط بصعود الحركة القومية العربية وتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي ، حيث ركز نفوذه في المناطق المتميزة بأغلبية عربية سنية ، مثل الاعظمية ومدينة الموصل والمناطق الغربية من البلاد . وهي مناطق متاخمة لسورية التي شهدت ولادة وصعود التيارات القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي . لكن الطفرة النوعية في هذا الانقسام الطائفي في المجتمع ، وتكريس التمييز بكل مستوياته تحقق مع وثوب البعث الى السلطة واستيلاء العناصر الطائفية شديدة التخلف على قيادته أولا وفي قمة السلطة ، والتي تمثلت في عبد السلام عارف واحمد حسن البكر.. وصدام حسين لاحقاً ، وهي ذات الزمرة التي صفت العناصر الشيعية التاريخية التي أسست حزب البعث نفسه. واقترن هذا التحول الخطير على مستقبل العراق ، مع إرساء أسس النظام الدكتاتوري والسلطة الاستبدادية ، التي أنهت بالتدريج أي مظهر للحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية ، وبذلك أيضا عطلت بناء دولة مؤسساتية، وأغرقت البلاد في سلسلة لانهاية لها من الحروب والتدمير والمآسي ظلت تلاحق شعبنا حتى يومنا هذا. ولم يقتصر اضطهاد هذا النظام وتمييزه على الشيعة والكرد والتركمان والآشوريين وغيرهم من المكونات ، كما قد يوحي به طابعه الطائفي، وما ينطوي عليه من خديعة سياسية، بل شدد الخناق على المكون السني نفسه وجرده من أي تعبير سياسي له ، وحال دون تكوين مرجعية راشدة تمثله وتعبر عن تطلعاته . وأمعن في التنكيل بشخصياته البارزة في الحركة الوطنية وفي الجيش والقوات المسلحة ، وشن حملات تصفية جسدية وسياسية بين صفوفها، موحياً بأن نظامه " الاستبدادي" بكل ما يحمله من جرائم وقهر ودمار، إنما هو نظام عربي سني. وهذا ما فعلته الزمر التي واجهت الوضع الجديد وتنظيمات القاعدة وجماعة الضاري وإشاعته قوى النظام السابق وبقايا البعث . وتمثلت الخطورة في هذا الادعاء بتحميل المكون العربي السني، الآثام والارتكابات الإجرامية لصدام وحكمه ، وخلق أرضية لتعميق الانقسام الطائفي والعمل على جر البلاد الى أتون حرب أهلية  والدفع باتجاه تقسيم العراق. ولعب السلوك المنفلت اللاحق لبعض حركات الإسلام السياسي الشيعي دوراً في تأجيج كل ذلك .

وفي هذا السياق لابد من إيراد ما مهدت له الولايات المتحدة وبريطانيا ، بالتعاون مع دول عربية وإقليمية، في تكريس الصيغة الطائفية بين صفوف المعارضة ، وفي صيغة المحاصصة الطائفية بعد سقوط النظام ، وما روجت له وسائل الإعلام الغربية والعربية " الطائفية " و" القومجية ، لتعميق هذا الاتجاه ، وإشاعة قيم المناطقية الطائفية ، وإعادة تسميتها على هذا الأساس .

ويبدو من هذا الإيجاز التاريخي ، أن الانقسام الطائفي الذي نشهده اليوم ، ويجسده الواقع العربي بأسوأ أشكاله ، لم يكن في بدئه " بضاعة عراقية " وأخشى أن أقول أنها لم تكن بضاعة إيرانية أيضا ، إذ تكفي الإشارة الى أن إيران الشاهنشاهية الشيعية كانت حليفة للحكومات العربية، الخليجية منها على وجه الخصوص، يستعان بها في غير مرة لمواجهة مصر وسوريا وبلدان عربية أخرى في مراحل مختلفة ، وكان يجمعها التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية .!

ولم يعد ثمة شكٍ في أن ذلك الانقسام الطائفي ، كان بدعة عربية  " تمنطقت " " بالقومية " منذ معاهدة سايكس بيكو بإخراج واحتواءٍ بريطاني ، واحتضان أميركي .

 لقد جرى تأجيج النزعة الطائفية وتصعيدها خلال حربي الخليج الأولى والثانية ، لكن التصعيد الأخطر اقترن بسقوط نظام صدام الاستبدادي ، والشروع ببناء نواة نظام ديمقراطي .

واتخذت الحملة طابع التشهير والتحريض على الوضع الجديد ، واستهداف الشيعة واتهامهم باللا وطنية وشككت بعراقيتهم وإنهم يمثلون الأكثرية ، واعتبرتهم فرساً مجوساً ، وامتداداً للنفوذ الإيراني . ومدت بقايا الدكتاتورية والتكفيريين والقاعدة والجماعات الضالة الأخرى بالسلاح والمال والتغطية الإعلامية ، وكادت بحملاتها أن تدفع البلاد الى مواجهة طائفية وجر مدمرة ، لولا وعي العراقيين ويقظتهم مما يدبر لهم ، وكان من شأن نجاح تلك الجريمة أن يودي بوحدة العراق ويشتت شملهم ويحولهم الى شيع وفرق لا مستقبل لهم .

 لقد استطاع المواطنون أن يفككوا الكانتونات ومناطق العزل الطائفي ، ويعيدوا إشاعة الألفة والوئام الى صفوفهم بعودة المهجرين الى مناطق سكناهم ، وقبلها بتصفية الميليشيات الطائفية على نطاق واسع . وكذلك أمكن إحراز نجاحات ملموسة على صعيد تامين الاستقرار وتجفيف بعض مصادر الإرهاب ، وضم العديد من المسلحين والمعارضين الى العملية السياسية.

إن أي تقييم موضوعي لتوسع ظاهرة الطائفية السياسية لابد أن يأخذ بالاعتبار بعض جوانب السياسية الإيرانية ومواقفها ، التي توحي بمعاكسة البلدان العربية والعمل على التقاطع معها ومعارضتها والعمل على إفشال سياساتها بما يشبه التدخل في شؤونها والربض عليها . كما أن من المهم الإشارة الى مدى الأضرار التي تلحق بالشيعة ،  من خلال الخلط الذي يقترن بسياستها العربية والإقليمية بين هويتها المذهبية وتوجهاتها العامة ، وبشكل خاص في بعض البلدان والميادين ، كما هو الحال بالنسبة لعلاقاتها مع العراق ولبنان وإعلانها الأخير عن تبني المعارضة البحرينية . إن إيران الدولة الإقليمية الكبيرة التي لها استراتجياتها ومصالحها في المنطقة، وهذا ما لا ينبغي أن ينسحب على الشيعة في أي بلد آخر يشكلون فيه جانبا اساسيا في الهوية الوطنية .ان محاولة التجاوز على هذه الهوية واحترامها يشكل عبءاً على كلا الطرفين، إيران والشيعة في دولهم، فيضعف من مصداقية الانتماء الى الوطن بالنسبة للشيعة ، ويوجه أصابع الاتهام لإيران بالتدخل في شؤون الآخرين.

ولا يمكن العبور دون توقف مسؤول عن مغالاة بعض الفرق السياسية الشيعية وتأجيجها الصراع الطائفي والإيحاء أحيانا بان موقفها وسياساتها إزاء بعض الصراعات التي تدور في المنطقة العربية وفي المحيط الإقليمي ، كما لو أنه انعكاس للسياسة والمصالح الإيرانية . والموقف من الأوضاع الأخيرة في البحرين تأكيد لذلك، سواء أكان مقصودا أم نتاجا لضعف الأداء السياسي، وهو ما تستثمره السلطات في تأليب الرأي العام العربي على عموم الحركات الشيعية.

إن خللاً جدياً يشوب النشاط الهادف لاستكمال البناء الديمقراطي والدولة المدنية وتضييق مساحة النفوذ والتأثير الطائفي ، ومعالجة هذا الخلل يتطلب قبل كل شيء الانتقال من الطائفية السياسية في إدارة الدولة، الى الانطلاق من الهوية الوطنية ومصالحها العليا التي تشكل جوهر مصالح الشعب بكل مكوناته دون استثناء، دون انتقاص من الأكثرية ولا استهانة بالأقلية. ومراعاة التوازن الوطني في السياسة الخارجية قبل الداخلية ، كضرورة لتوطيد النظام الديمقراطي وتقوية نسيج المجتمع وانجاز المصالحة المجتمعية التي هي أساس المصالحة وجوهرها. وفي هذا السياق لابد من مقاومة الانجرار الى ما يشكله التجاذب الطائفي من الأنظمة العربية والإقليمية التي تجد في النزوع الطائفي تعبيراً عن طبيعتها ، ومحاولة لإلهاء شعوبها وتخويفها بعدو وهمي ، وتصدير أزماتها الداخلية.

إن الحفاظ على العلاقات العراقية - العربية والإقليمية ، يتطلب الانتباه لتجنب الانزلاق الى المواقف التي تضعف مكاسبه وتعيد الحصار الظالم عليه ، وتظهره بما لا يختلف عن النزوع المتخلف للنظام العربي الرسمي الطائفي ، الذي يدفع الشعوب العربية المبتلاة بأنظمتها الى المزيد من الانقسام والتفكك .

إن الموقف الرسمي من البحرين، سواء برفع جلسات البرلمان أو التصريحات الرسمية ، كان بالإمكان أن يعزز من دور العراق ويرفع من هيبته ، لو انه جاء في إطار موقف متعاطف مع الثورات وحركات الاحتجاج التي اجتاحت العديد من البلدان العربية وأطاحت بدكتاتوريات وطغاة ، وتستمر لتأتي على ما تبقى من الأنظمة الشمولية، بحيث لا يكون لإبداء أقصى التعاطف مع المعتصمين البحرينيين هذا الانعكاس السلبي الضار. لقد ضيع هذا الموقف المشحون بالنزعة الطائفية الفرصة لفضح الطابع الطائفي الفظ الذي اتخذته الإجراءات والتدابير العسكرية والسياسية التي انطوت على اسوأ شحنة طائفية ستترك آثارا مدمرةً على أي توجه لإعادة رأب الصدع في الصف العربي الممزق بعوامل الخلافات والتجاذبات على أكثر من صعيد ، وفي مقدمتها  الخلافات التي تلعب دوراً تخريبياً في تفكيك القضية الفلسطينية ، وتمكين إسرائيل من إلحاق المزيد من الخسائر بالشعب الفلسطيني.

لقد ضيع الموقف الرسمي العراقي من البحرين الفرصة على العراق أن يلعب دور الوسيط المقبول بين المعارضة والحكم ، خصوصاً أن البحرين وحكومتها كانت من أكثر البلدان الخليجية التي وقفت الى جانب العراق الجديد وسعت لدعم عودته الى موقعه العربي .

كان علينا أن لا ننسى لكي لا نبدو كمن يتمنى وساطة تركية بين الفرقاء في البحرين.

وعسى أن تفعل الدبلوماسية العراقية أقصى ما بوسعها لكي لا يترك الموقف ، الذي اتخذ تحت ضغط لا يتسم بالروية والنظرة البعيدة على علاقاتنا مع البلدان العربية والخليجية المعنية بالأزمة البحرينية ، دون أن يعني ذلك تزكية مواقفها ودورها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram