شاكر لعيبي
في عمود سابق عرضنا عرضاً (للبلاغة السوريالية) في النصوص التراثية، واقترحنا أنها تلك التي تحمل صيغاً بلاغية ذات محمولات مثيرة
من مضاف ومضاف إليه (جناح الذل، لوعة الحجر..الخ). لكن الأمر لا يتعلق فقط بصيغ لغوية وكنائية مثل تلك، قد تدفع إلى صور سوريالية. ثمة مخيّلة خالصة يمكن وصفها بالسوريالية، قادمة من ابتداع صور غرائبية وغير مألوفة. بالطبع بعض هذه الصور كان بالأصل طرفوياً، أو في سياق طرفوي (مثلما كانت البلاغة السوريالية تلك تقع غالباً في صلب حادثة محدّدة طرفوية)، فينجم عنه شيء يماثل التخييل السوريالي، ومثال ذلك ما أنشده ابن المرصص بين يدي الوزير القوصي في وصف جارية: "وماست فشقَّ الغصن غيظاً ثيابه"، فردّ الوزير: "وفاحت فألقى العود في النار نفسه"، وكان هناك الشاعر النواجي في المجلس، فأضاف: "وغنّت فظل الجنك يطرق نفسه" (عن كتاب "ثمرات الأوراق" وبه الأبيات بتمامها).
في الغالب كان شعراء المجون والتهتك والخمرة، في ظننا، هم الأكثر ابتداعاً للصور السوريالية، وذلك أن انفلاتهم السلوكي والاجتماعي والأخلاقيّ يمضي بعيداً في انفلات تخيّليّ. يمكنك إيجاد العديد من الصور السوريالية لدى أبي نواس لهذا السبب:
"كأن شعاعها في كف شـاربها قبس ٌ" أو "إذا عبّ منها شارب القوم خلته - يقبّل في داجٍ مـن الليل كوكبا". وكقول ابن سكرة: "كأنني إِذْ لثمت فَاك بهَا - لثمتُ تفاحة من الذَّهَب"، وقوله في وصف الخمرة: "فَهِيَ لمن شمّ رِيحهَا أثر - وَهِي لمن رام لمسها خبر". وقال: "... أرى الْقَامَة الَّتِي - قد أَقَامَت قيامتي"، وقال في وصف البَرْد:
قيل مَا أَعدَدْت للبرد - فقد جَاءَ بشدّهْ
قلت درّاعة عُري - تحتهَا جُبَّة رعدهْ
وقال في مغنية كان يهجوها: "... لَاحَ لي ثغرها - ولاح مِنْهُ الخزفُ الأخضرُ"، وقال فيها: "إِلَى أَن عَفا حرهَا ودبب منعظي - وَصَارَت قفا نبك وصرتُ أَلا هُبّي"، وقوله:
الشّعْر نار بِلَا دُخان
وللقوافي رقى لطيفهْ
وشعر ابن سكرة الذي عرضه الثعالبي يمكن أن يُدْرَج في مخيّلة سوريالية مُتعمّدة بعد أبي العبر الهاشمي.
وإذا مضينا في استقصائنا سنجد المزيد، نقرأ لأبي الفضل بن شرف القيروانيّ قوله عن امرأة جميلة:
".... جمدتْ من السكينة أو ذابتْ من الخفرِ".
وفي لسان العرب قولهم: "انْتَعَلَ الظِّلَّ فكان جَوْرَبا" وقول أعرابيّ: "حيث انتعل كل شيء ظله". وفيه أيضاً، قال الراجز:
"قد وَرَدَتْ تَمْشِي على ظِلالِها - وذابَت الشَّمْس على قِلالها".
ثم أنت تقرأ في (الامتاع والمؤانسة) قول التوحيدي: "العقل أيضاً شمس أخرى، ولكنها تطلع على النفس..".
وفي الأبيات الساخرة، هناك الكثير من هذه المخيلة السوريالية، مثل وصف أحدهم لأنف ضخم بقوله:
"لك وجهٌ وفيه قطعة أنفٍ - كجدار ٍقد دَعَموه ببغله"، ومن ذلك ما ينقله الأبشيهي في فصله "الهجاء ومقدماته" وفيه يقدّم فهماً مبتكراً لمعنى الهجاء.
يمكن جمع هذه النصوص، وهي شذرات بالأحرى، من التراث العربيّ في مُصنّف مستقل، من أجل التأكد أن مخيّلة تكاد تكون سوريالية، غير غائبة البتة. والسبب في ذلك كما نعتقد أن تخوم المخيّلة غير محدودة وغير منطقية بطبعها، رغم أن (العقلانية) و(السببية) تكاد تكون شرطاً أدبياً وشعرياً عربياً في النقد المكتوب السائد حينها. فالمتنبي الذي هو شاعر الحكمة والحِكَم العميقة، المنطقية، خير دليل على انطلاق المخيلة حتى حدودها القصوى: "وخير مكان في الدنا سرج سابح" و"من لو رآني ماء مات من ظمأ" و"إِن عَمَرتُ جَعَلتُ الحَربَ والِدَةً وَالسَمهَرِيَّ أَخاً وَالمَشرَفِيَّ أَبا" وخاصة في قصيدته التي يقول فيها:
" غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا - على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
لهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ بأشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلا أوَانِ
وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا - صَليلَ الحَلْيِ في أيدي الغَوَاني
يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني: - أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ"
نحن أخيراً أمام حصان المتنبي الذي يتكلم. ثمة الكثير جداً من الصور الصادمة والمبتكرة والغرائبية التي أشعل بعضها السجال بشأن شعر المتنبي.