TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تلويحة المدى: هل من سوريالية في التراث الشعريّ العربيّ؟

تلويحة المدى: هل من سوريالية في التراث الشعريّ العربيّ؟

نشر في: 22 يوليو, 2019: 06:55 م

 شاكر لعيبي

في عمود سابق عرضنا عرضاً (للبلاغة السوريالية) في النصوص التراثية، واقترحنا أنها تلك التي تحمل صيغاً بلاغية ذات محمولات مثيرة

من مضاف ومضاف إليه (جناح الذل، لوعة الحجر..الخ). لكن الأمر لا يتعلق فقط بصيغ لغوية وكنائية مثل تلك، قد تدفع إلى صور سوريالية. ثمة مخيّلة خالصة يمكن وصفها بالسوريالية، قادمة من ابتداع صور غرائبية وغير مألوفة. بالطبع بعض هذه الصور كان بالأصل طرفوياً، أو في سياق طرفوي (مثلما كانت البلاغة السوريالية تلك تقع غالباً في صلب حادثة محدّدة طرفوية)، فينجم عنه شيء يماثل التخييل السوريالي، ومثال ذلك ما أنشده ابن المرصص بين يدي الوزير القوصي في وصف جارية: "وماست فشقَّ الغصن غيظاً ثيابه"، فردّ الوزير: "وفاحت فألقى العود في النار نفسه"، وكان هناك الشاعر النواجي في المجلس، فأضاف: "وغنّت فظل الجنك يطرق نفسه" (عن كتاب "ثمرات الأوراق" وبه الأبيات بتمامها).

في الغالب كان شعراء المجون والتهتك والخمرة، في ظننا، هم الأكثر ابتداعاً للصور السوريالية، وذلك أن انفلاتهم السلوكي والاجتماعي والأخلاقيّ يمضي بعيداً في انفلات تخيّليّ. يمكنك إيجاد العديد من الصور السوريالية لدى أبي نواس لهذا السبب:

"كأن شعاعها في كف شـاربها قبس ٌ" أو "إذا عبّ منها شارب القوم خلته - يقبّل في داجٍ مـن الليل كوكبا". وكقول ابن سكرة: "كأنني إِذْ لثمت فَاك بهَا - لثمتُ تفاحة من الذَّهَب"، وقوله في وصف الخمرة: "فَهِيَ لمن شمّ رِيحهَا أثر - وَهِي لمن رام لمسها خبر". وقال: "... أرى الْقَامَة الَّتِي - قد أَقَامَت قيامتي"، وقال في وصف البَرْد: 

قيل مَا أَعدَدْت للبرد - فقد جَاءَ بشدّهْ

قلت درّاعة عُري - تحتهَا جُبَّة رعدهْ

وقال في مغنية كان يهجوها: "... لَاحَ لي ثغرها - ولاح مِنْهُ الخزفُ الأخضرُ"، وقال فيها: "إِلَى أَن عَفا حرهَا ودبب منعظي - وَصَارَت قفا نبك وصرتُ أَلا هُبّي"، وقوله:

الشّعْر نار بِلَا دُخان

وللقوافي رقى لطيفهْ

وشعر ابن سكرة الذي عرضه الثعالبي يمكن أن يُدْرَج في مخيّلة سوريالية مُتعمّدة بعد أبي العبر الهاشمي.

وإذا مضينا في استقصائنا سنجد المزيد، نقرأ لأبي الفضل بن شرف القيروانيّ قوله عن امرأة جميلة:

".... جمدتْ من السكينة أو ذابتْ من الخفرِ".

وفي لسان العرب قولهم: "انْتَعَلَ الظِّلَّ فكان جَوْرَبا" وقول أعرابيّ: "حيث انتعل كل شيء ظله". وفيه أيضاً، قال الراجز:

"قد وَرَدَتْ تَمْشِي على ظِلالِها - وذابَت الشَّمْس على قِلالها".

ثم أنت تقرأ في (الامتاع والمؤانسة) قول التوحيدي: "العقل أيضاً شمس أخرى، ولكنها تطلع على النفس..".

وفي الأبيات الساخرة، هناك الكثير من هذه المخيلة السوريالية، مثل وصف أحدهم لأنف ضخم بقوله:

"لك وجهٌ وفيه قطعة أنفٍ - كجدار ٍقد دَعَموه ببغله"، ومن ذلك ما ينقله الأبشيهي في فصله "الهجاء ومقدماته" وفيه يقدّم فهماً مبتكراً لمعنى الهجاء.

يمكن جمع هذه النصوص، وهي شذرات بالأحرى، من التراث العربيّ في مُصنّف مستقل، من أجل التأكد أن مخيّلة تكاد تكون سوريالية، غير غائبة البتة. والسبب في ذلك كما نعتقد أن تخوم المخيّلة غير محدودة وغير منطقية بطبعها، رغم أن (العقلانية) و(السببية) تكاد تكون شرطاً أدبياً وشعرياً عربياً في النقد المكتوب السائد حينها. فالمتنبي الذي هو شاعر الحكمة والحِكَم العميقة، المنطقية، خير دليل على انطلاق المخيلة حتى حدودها القصوى: "وخير مكان في الدنا سرج سابح" و"‏من لو رآني ماء مات من ظمأ" و"إِن عَمَرتُ جَعَلتُ الحَربَ والِدَةً وَالسَمهَرِيَّ أَخاً وَالمَشرَفِيَّ أَبا" وخاصة في قصيدته التي يقول فيها: 

" غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا - على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ

لهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ بأشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلا أوَانِ

وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا - صَليلَ الحَلْيِ في أيدي الغَوَاني

يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني: - أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ"

نحن أخيراً أمام حصان المتنبي الذي يتكلم. ثمة الكثير جداً من الصور الصادمة والمبتكرة والغرائبية التي أشعل بعضها السجال بشأن شعر المتنبي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram