شاكر لعيبي
سقطنا على عبارة القاضي التنوخي التي تقول إن أحدهم حضر في سنة ست وعشرين وثلاثمائة، "مجلس تحفة القوّالة،
جارية أبي عبد الله بن عمر البازيار [أحد قواد المتوكل جلبه من دمشق]" (التنوخ: مشوار المحاضرة)، ووهناك عبارة ترد لدى أبي الفضل العمري: "تحفة؟ جارية أبي يعقوب [..] ومن أصواتها: مجزوء الرمل]
آح من حبّك آح - آح منه لا براح
إنما تيّم قلبي - عقد درّ ووشاح".
ويذكر أنه من شعر الوليد ابن يزيد، ولم نعثر على ذلك في شعره، كما يذكر واضعا علامة استفهام قبل اسمها أنها جارية أبي يعقوب ولم نعرف هذا الرجل. بينما ينقل مؤلف (وفيات الأعيان) حكاية التنوخي نفسها.
هنا أمران: أن التنوخي لا يسميها "مغنية" إنما "قوّالة". والقوّالة كلمة مستخدمة حتى اليوم في العامية العراقية للمرأة، فلا يقال للرجل قوّال. وربما قيلت المفردة قَوَّالٌ للزجّال في بلاد الشام أو مصر، أي الذي يكتب الأزجال. في العراق (القوّالة) خلافاً (للمُلّاية)، هي المرأة التي تقول (الشعر) وتنشده في المآتم والافراح وبخاصة الأبوذيات والهوسات. وهذا أقرب لمناخ الجواري قبلهنّ. الأمر الثاني: مفردات أغنية تحفة (آح من حبّك آح).
السنة التي يذكرها القاضي التنوخي هي سنة 326 الهجرية التي تقع بين سنتي 937 و938م، أي في القرن العاشر الميلاديّ، وهذا وقت مبكّر نسبياً.
فهل كان العراقيون يطلقون منذ القرن العاشر الميلادي على الجواري المغنيات اسم القوّالات؟ لا يترك التنوخي، ولا مفردات الشعر الذي غنّته تحفة (آح من حبّك آح - آح منه لا براح)، مجالاً للشك.
عندما نشرنا سطوراً من هذا العمود في وسائط التواصل، سارع بعضهم إلى تذكيرينا بعمودي في صحيفة المدى بعنوان (من أجل قراءة تاريخية وثقافية لمفهوم "الكاولية") المنشور بتأريخ 2018/01/15. وأشار بأننا طرحنا فرضية أن المفردة العامية العراقية (كاولية) = الغجر قد تكون موصولة بالمفردة الفصيحة = قوّال، قوّالة، كوالة. وفيها ذكرنا أنها قد تكون متصلة، عبر هجرتها إلى النطق الهنديّ، بمفردة (قوّال) التي تكتب وتنطق كاوّالي qawwali، ويُقصد بها المغنّي القوّال الصوفيّ (الفقير) الذي يقول أشعاراً روحية مغناة. قلنا إذا كانت هذه الفرضية الجديدة صحيحةً، فإن هناك مسافة اعتبارية بين الغجريّ والقوّال. وقلنا إن المفردة (qawwali) موجودة في القاموس الإنكليزيّ (القوّالي)، ويعرّفها بصفتها نمطاً من الموسيقى العباديّة الإسلامية التي ترتبط اليوم مع الصوفية في الباكستان.
ولا تناقض فيما سقناه وما نسوقه، إذا لم يكن ما نكتبه الآن يعزّز الفرضية. فالقوّال قد تعرضت لتبدلات دلالية طفيفة ولبست ظلالاً وإيحاءات هنا وهناك. في لسان العرب نحن في مادة (القول) أي النطق: إِنهم لَقالةٌ بالحق، وكذلك قَوّال وقَوّالةٌ من قوم قَوَّالين وقَوَلةٍ. وبمعنى سلبي أحياناً: امرأَة قَوَّالة: كثيرة القَوْل، والعرب تقول للرجل إِذا كان ذا لسانٍ طَلِق إِنه لابنُ قَوْلٍ وابن أَقْوالٍ وابنُ قَوَّالٍ أَي جيدُ الكلام فصيح. وفي القاموس المحيط: ورجُلٌ قَوَّالٌ وقَوَّالَةٌ: حَسَنُ القولِ، أو كثيرُهُ، لَسِنٌ. وفي مقاييس اللغة: رجل قُوَلةٌ وقَوَّالٌ: كثير القَول. قال تأَبَّط شرّاً:
لكِنَّما عِوَلي، إِن كنتُ ذَا عِوَلٍ، على بَصير بكَسْب المَجْدِ سَبَّاق
حَمَّالِ أَلْوِيةٍ، شَهَّادِ أَنْدِيةٍ، قَوَّالِ مُحْكَمةٍ، جَوَّابِ آفاق
وقال السفَّاح اليَرْبوعي "قَوّالُ مَعْروفٍ وفَعّالُه". وجاء في كتاب المقريزي المسمى (المقفى الكبير): "عن أبي الفرج بن عمر قال: رأيت النبي في النوم فقال: أبو بكر بن أبي الحديد قوّال بالحق". وعن وهب بن منبه في صفة النبي "ولا قوّال للخنا". ونقل إن عثمان قال "أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال". وفي كل ذلك لا أثر سالباً كبيراً للمفردة. وعندما استخدمت (القوّال) في بلاد الشام، في وقت متأخر في الغالب، بمعنى الشاعر الزجّال، ظلت تدور في فلك دلالة كلمة (القائل) المترنّم بالحكمة، الحكمة الشعبية من حينها.
لقد ذهب الاستخدام الاجتماعي للمفردة باتجاهات شتى، وفي أغلب الظن فالجارية العباسية تحفة التي كانت (قوّالة) لم تتدنَ بشعرها بعد إلى مستوى (الشاعرات) أو (القوّالات = الكوّالات) العراقيات، بينما القوّال الزجليّ الحكيم، الشاميّ، والمصريّ غالباً، فهو من طينة المعنى نفسه الذي استخدمه المغنّون الباكستانيون والهنود الذي يُطْلَقُ على الكاولية (القوّالة الصوفية) بادئ الأمر، قبل ابتذال دلالة الكاولية لاحقاً في العراق.
يبقى سؤال أخير: هل مفردة (القوّالة) في نص التنوخي هي من الاستخدام الشاميّ منذ القرن العاشر الميلادي؟