TOP

جريدة المدى > عام > عمارة (مركز بومبيدو للفنون) غـيـاب الحــداثـة وحـضـور.. مـا بـعـــدها

عمارة (مركز بومبيدو للفنون) غـيـاب الحــداثـة وحـضـور.. مـا بـعـــدها

نشر في: 12 يناير, 2020: 07:18 م

د. خالد السلطاني / معمار وأكاديمي

يعتبر "مبنى مركز جورج بومبيدو للفنون"، المطل على ساحة "بوبور" في باريس والمشيد ما بين 1971 - 1977 (المعماريان: رينزو بيانو (1937) R. Piano وروبرت روجيرز (1933) R. Rogers)

بمثابة "علامة" ورمزاً إلى نتاج <الهاي – تيك> (التيار المعماري المعروف الذي سنأتي، للتو، على ذكر خصائصه).

قوبلت عمارة المبنى في بدء ظهورها بموجة من التعليقات القاسية والأوصاف غير المعتادة نظراً لغرابة لغة عمارته وجسارة منطلقات معمارية وجرأتهم في تأويل مرجعيتهم التصميمية؛ لكن المبنى الذي ُشبه أولاً بـ"مصنع لتكرير النفط" تهكماً وسخرية من أسلوب عمارته، بدأ يحظى تدريجياً بإعجاب وتقبل الناس: زواره العديدون ومشاهدو عمارته المميزة. وبدت النقاشات الصاخبة والآراء المتضادة التي أثيرت حول عمارته في بدء ظهوره باعثاً مضافاً لتكريس حضوره وأهميته في سياق عمارة البيئة المبنية وانتشار صيته التصميمي حدثا ثفافيا ومهنياً بامتياز، مجسداً عبر أسلوب عمارته الاستثنائية مقاربة معمارية جديدة دعيت "بالهاي –تيك". 

وتيار "التقنية المتقدمة" High –Technology، المعروف اختصاراً بـ "الهاي – تيك" Hi- Tec، من أكثر تيارات عمارة ما بعد الحداثة انتشاراً وحضوراً في الخطاب المعماري المعاصر، ليس لأن هذا التيار يجعل من مقاربته المميزة وأسلوبه الخاص بمثابة "قطيعة" معرفية مع بقية المقاربات التصميمية المعروفة سابقاً، تلك المقاربات التي ما لبثت أن ظهرت بشكل فجائي وسريع على مسرح المشهد المعماري الحداثي مؤخراً، وإنما أيضاً بسبب تقبل طروحاته بسهولة من لدن مصممين مختلفين ينتمون إلى مناطق جغرافية متباينة ذات خلفيات ثقافية متنوعة، وقد ساهم ذلك كله في تكريس حضوره في الممارسة المعمارية المعاصرة كأحد التيارات المعمارية المهمة في المشهد المعماري العالمي؛ هذا عدا اعتماده بصورة واضحة ومباشرة وصريحة على آخر مستجدات النجاحات التقنية، ما جعل منه تياراً معمارياً مقبولاً وشائعاً يدرك من قبل الجميع كون منتجه يعكس بوضوح "اميج" عمارة ما بعد الحداثة ورمزها التصميمي في عصرنا الراهن.

ظهر "الهاي – تيك" كأحد تجليات مسار عمارة الحداثة المتأخرة، تلك العمارة التي تشكلت خصائصها وبأن أسلوبها المميز في السبعينيات، وهذا التيار المعماري في الحقيقة يتوق لتكييف نجاحات التكنولوجيا البنائية لجهة اجتراح تجديد جذري في لغة العمارة انطلاقاً من تأثيرات التقدم العلمي الذي أحرزته الإنسانية مؤخراً واعتبار ذلك التقدم مكـّوناً تصميمياً أساسياً في إبداع منجز تلك العمارة. ينشد "الهاي تيك" إلى عكس رمزي لحضور "التكنولوجيا المتقدمة"، كما يحرص عبر فورماته ذات المظهر الدال الإشارة إلى خصوصية العصر المتجسدة بحدث ظهور الصواريخ عابرة القارات ومركبات الفضاء المكوكية، كما يسعى إلى حضور كل ذلك في منتج عمارة الأبنية العامة تحديداً (لاحقاً، كما سنرى، سوف يتخطى الهاي – تيك تلك المحددات ويغطي بقية "تابولوجية" المباني الأخرى، وسنشاهد أمثلة عديدة لحضوره المؤثر في عمارة الأبنية السكنية على سبيل المثال). وأياً يكن الأمر، فإن "الهاي تيك" يمثل آخر مرحلة بالقرن العشرين لصياغة أشكال وفورمات متخمة تكوينياً بالحضور التقني الرفيع، تلك المحاولات التي بدأت مع تيار <الكونستروكتيفزم> الروسي في عشرينيات القرن الماضي وصولاً إلى تجارب البنيوية الأخيرة في ستينيات ذلك القرن. 

يتميز "الهاي- تيك" عن المراحل السابقة، بتوقه نحو إبراز خاصية التقنية المتقدمة "سوبر تكنولوجيا" والتي فيها تنمو وتتحول الاستخدامات الوظيفية للتراكيب الإنشائية ومنظومة الخدمات الهندسية، إلى عناصر تزيينية ممسرحة؛ مع مغالاة في أهميتها ومقاساتها، مغالاة تصل حد التهكم والسخرية منها. وبخلاف مقاربات البنائية <الكونستروكتفيزم> وكذلك البنوية المعتمدة في تحقيق غاياتها الإنشائية على الخرسانة والزجاج فإن "الهاي – تيك" توجه لاستيعاب وإدراك جمالية التراكيب المعدنية (الحديدية) مع الألواح الزجاجية. وبالإضافة إلى ذلك فقد أدخل "الهاي – تيك" العناصر الخاصة بالخدمات الهندسية مثل أنابيب التهوية ومجاري الخدمات الصحية ووسائط الحركة المتنوعة، بشكل مؤثر في المعالجات التصميمية للمباني التي نفذت وفق طروحاته، ومستنداً إلى تجارب تكنولوجية صرفة وشائعة في عمارة المنشآت الصناعية الحديثة التي يلجأ عادة فيها إلى تلوين وسائل المنظومات الخدمية بألوان مختلفة؛ فإن "الهاي – تيك" وظف هذا الأسلوب في منتجه المعماري وجعله يعمل باعتباره عنصراً تكوينياً جمالياً. 

في تصديهم للمعضلة التصميمية التي وضعوها أمامهم، انطلق معماريو "مركر جورج بومبيدو للفنون" من فكرة خلق وإبداع فضاءات عرض حرة وفسيحة في آن، موظفين أطروحة "ميس فان دير روّ" الخاصة بتنظيم فضاءات شاملة لجهة تحقيق أهدافهم، بيد أن مسعاهم هذا، تجاوز حدود مقترب "ميس" المعروف باجتراح فضاء شامل وعام في هيئة حافلة فورماتها بالانتظام والوضوح، عندما اقترحوا حلاً ينطوي على ايصال تبعات ذلك المقترب حدوده القصوى, فشكل المبنى المتوازي الأضلاع والذي يمتلك عرضاً بـ 50 متراً و170 متراً طولاً، تم تسقيف طوابقه الستة عبر منظومة من المساند المتشابكة المثبتة خارج المبنى. أن وجود فضاءات بباع Span لجسور بأطوال 48 متراً مخصصة لعرض الكتب أو اللوحات الفنية (وهما الوظيفتان الأساسيتان للمركز) يبدو أمراً زائداً عن الحاجة، لاسيما إذا أخذنا في نظر الاعتبار حتمية وجود فائض الإشغال المكاني المترتب جراء سماكة الجسور ذات المجالات الفسيحة والتي شغلت حيزاً مضافاً تقدر سعته بنصف فضاءات حجوم المبنى المصممة تقريباً، ومع ذلك فإن المصممين ذهبوا بعيداً في تعاطيهم مع حلهم المعماري، مقترحين لنا مشروعاً تصميمياً مكلفاً وغير مبرر وظيفياً، ولكنه في الوقت ذاته يظل مشروعاً رائداً تتماهى فيه التقنية تماهياً عضوياً مع مكونات لغته التصميمية، يحيث يكون ذلك التماهي بمثابة ضربة التكوين وفكرته الأساسية. 

ومع أن هيئة المبنى متمثلة بكتلة منتظمة، فإن شكله العام الخارجي و"سيلويته" Silhouette يبدوان غير ذلك، لأن مصممي المبنى، وبخلاف مقاربات "ميس فان دير رو" ابتعدوا كثيراً عن محاولات تمثيل انتظامية هيئة الشكل العام للمبنى أو استنطاق فورماته الهندسية الصارمة؛ وبدا المبنى، وفقاً لرغبة المصممين، وكأنه لا يزال محاطاً "بقوالب" أعمال الإنشاء المؤقتة أكثر بكثير من مبنى مكتمل البناء!. وساهم في تشويش معالجات واجهات المبنى الحضور الكثيف للعدد الهائل من عقد الإنشاء والتراكيب البنائية الطولية والمحورية والمتصالبة التي غطت بعناصرها مفردات الواجهة وأكسبتها انطباع "الفوضى" العفوية، بيد أنها تظل "فوضى" متقصدة, وحتى "مصممة" مسبقاً. وما زاد في خلق حالة "التشويش" الواجهاتي كشف مجاري وأنابيب الخدمات الهندسية نحو الخارج؛ هذا عدا اللجوء لتوظيفات عنصر اللون وتشغيله تكوينياً للقيام بوظائف جديدة لم تكن معتادة سابقاً في العمارة المدنية. إذ حرص المصممون على أن يكون لعنصر اللون دور مؤثر في صياغة المنظومة التكوينية لواجهات المبنى، ونحن هنا لا نتكلم عن صبغات مألوفة لمساحات محددة أو موقعة على سطوح المبنى، وإنما تم توظيف عنصر اللون بصبغاته المختلفة على أجزاء مختارة من الواجهة المتشكلة من عناصر مختلفة وغزيرة، توظيف يذكرنا في نوعية أساليب تلوينات عناصر المنشآت الصناعية, فلوّنت مجاري التهوية بالأخضر, وأنابيب الماء بالأزرق, وقنوات الأسلاك الكهربائية بالأصفر، في حين لوّنت عناصر الانتقال والحركة مثل المصاعد والأدراج والسلالم الدوارة Escalators بالأحمر. وفي النتيجة فإن قرار كشف ونقل جميع المنظومات الإنشائية والتركيبة والحركية إلى واجهات المبنى أوحى إلى تداعيات ملتبسة تشبه إلى حد كبير بقلب الأحشاء "بطناً لظهر"، والتي تدخل في تعارض فاضح مع مبادئ ظاهرة "البيونيكا" Bionomic المعمارية المألوفة.

وأياً يكن الأمر، فنحن أمام ظاهرة معمارية جديدة حظيت بانتشار واسع في مجمل الممارسة التصميمية العالمية إبان ظهورها الأول عند ميدان "بوبور" الباريسي، ومنذ ذلك الحين بات المبنى وعمارته مقصداً للزيارة والتطلع إليه من قبل كثر من الناس. وتشير الإحصاءات ذات الشأن أن موقعه ظل يستقطب العدد الأكبر من زوار متاحف باريس ذات الشهرة العالمية ولسنين عديدة. كما يجدر بالذكر بأن موقع الساحة المفتوحة المجاورة للمركز بدت هي الأخرى من أكثر الساحات الباريسية شهرة وازدحاماً وتنوع فعاليات, وقد اكتسبت صيتها من صيت المبنى المجاور وعمارته الاستثنائية، وهو أمر يؤكد ما ذهبنا إليه من أن مفهوم الهاي – تيك المعماري لا يقتصر على خلق أحياز وحصرها ضمن فورم إنشائي فقط، بقدر ما تستوعب طروحاته أيضاً تنظيم الفضاءات المكشوفة، تلك الفضاءات المطبوعة تصميماً بطابع الهاي – تيك ذي اللغة المعمارية الفريدة والمميزة. 

لقد عبر المسار التطوري الذي سلكه "الهاي – تيك" عن نفسه، وتحدد لاحقاً ضمن مقاربتين اثنتين شهدتهما الممارسة المعمارية العالمية أولاهما نزوع المصممين المشتغلين ضمن إطار مفهوم "الهاي – تيك" إلى تعقيد متقصد لكتلة المبنى الخارجية عبر التشديد على حضور توابع تكنولوجية ثانوية ولواحق تركيبية غير أساسية، والثانية تكمن في تطلع المصممين إلى تكريس وضوح تكتونية المبنى وصفاء كتلته المبتدعة. ويتمثل الأسلوب الأول بصيغة واضحة في عمارة "مركز بومبيدو للفنون". 

والمعمار"رينزو بيانو" أحد اثنين من مصممي المركز الباريسي، ولد في سنة 1937، في مدينة "جنوة" الايطالية، في عائلة عمل اكثر افرادها في قطاع المقاولات. فجده، وأبوه، وثلاثة من أعمامه بالاضافة الى شقيقه عملوا جميعاً في شركتهم العائلية. درس العمارة في مدرسة العمارة بجامعة البولوتكنيك في ميلانو. اسس في سنة 1971، مكتباً معمارياً بالاشتراك مع المعمار الانكليزي "ريجارد روجرز"، كما أسس لاحقاً، في سنة 1981، مكتباً خاصاً به باسم "ورشة بناء رينزو بيانو" RPBW. صمم العديد من المشاريع ذات اللغة المعمارية المميزة في أنحاء عديدة من قارات ومدن العالم. حاز على جائزة "بريتزكر" سنة 1998. يوجز مقاربته المعمارية بالكلمات التالية"..انزع لتوظيف عناصر غير مادية في نشاطي المعماري، مثل الشفافية، الخفة، وانعكاس الضياء. واعتبر ذلك بمثابة جزء لا يتجزأ من التكوين، مثل الشكل والكتلة"، أما المصمم الثاني للمركز إياه فهو "ريجارد روجرز"، المولود في فلورنسا /ايطاليا عام 1933. وهو من أصول انكليزية هاجر أجداده الى ايطاليا حوالي سنة 1820، على أن والده قرر أن يعود الى انكلترة سنة 1939، والتي فيها اكمل روجرز تعليمه المعماري بمدرسة "الجمعية المعمارية" (الاي. اي. .A.A) في عام 1959، ثم بعد ذلك حصل على الماجستر في العمارة من جامعة "يال" في امريكا سنة 1962. صمم العديد من المشاريع المميزة بضمنها مبنى لويد في لندن (1978 – 84)، و مركز المعلومات في وكالة رويترز بلندن (1987 – 92)، ومجمع ديملير في برلين / المانيا (1993 – 99)، ومطار مدريد/ اسبانيا (2004)، وغير ذلك من المشاريع. حاز على جائزة البريتزكر عام 2007، والكثير من الاوسمة والالقاب الفخرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: تصنيف الأعمال الموسيقية

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

الجندي الأمريكي والحرب

سحر محمول أغنية حب للكتاب.. من فجر التاريخ حتى ببليوغرافيا هتلر

مقالات ذات صلة

متعةُ وكشوفٌ لاتضاهى في قراءة الأعمال الكلاسيكية
عام

متعةُ وكشوفٌ لاتضاهى في قراءة الأعمال الكلاسيكية

لطفية الدليمي ربما تكون جائزة البوكر العالمية للرواية هي الجائزة الأعلى مقاماً بين الجوائز الروائية التي نعرف، ولعلّ من فضائلها أنّها الوسيلةُ غير المصرّح بها لتعريف القارئ العالمي بما يُفتّرّضُ فيه أن يكون نتاجاً...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram