د.عبد العظيم السلطاني
فَهِمَ أبو تمام اللعبة، أو قل اكتشفها، قبل ألف ومئتي عام، فقال مُلخِّصا تجربته وناصحا: ((فإنّي رأيتُ الشمسَ زِيدَتْ مَحَبَّةً إلى الناسِ أنْ ليستْ عليهِم بِسرْمَدِ)).
لقد أدرك مزاج الناس في العلاقة مع الأشياء وتلقيها. فهم يحبون خفيف الظل، الذي يلعب لعبة الاختفاء والظهور بشفافية، ولا يُطبِق على أنفاس الناس بالديمومة. أدرك أبو تمام بوعي فكرة التجدّد، سرّاً من أسرار حركة الحياة، وسرّاً من أسرار مزاج الإنسان وطبيعة تكوينه. ولم يكن أبو تمام بخيلاً على الناس، ليحبس ما خلُص إليه من تجربة في الحياة. فصاغ الفكرة صياغة جمالية بليغة وقدّمها معرفةً للناس، ليستنير بها من لم يفكر بهذا من قبل، وليذكِّر بها من عرفها، ثم أنسته إيّاها مشاغل الحياة وكثرة همومها، فسار بغفلة على طريق الضدِّ مما يعرفه.اليوم، نحن نعيش في عالم التواصل الاجتماعي الإلكتروني، والناس موجودون في حياتنا على صفحات الفيسبوك وتويتر وبرامج القنوات الفضائية، وما سوى ذلك. وفي كلّ هذا فرص للظهور أمام الناس. ومن ذلك فرص ظهور صور الأدباء وفرص نشر نصوصهم وفرص ظهورهم يتحدثون في هذا الأمر أو ذاك. وهذا من حيث المبدأ أمر حسن وفّرته تكنلوجيا عصرنا التقني المتقدم. ولكن أن يواجهك الأديب في كل يوم - وأحياناً في كل ساعة - على منصات التواصل الاجتماعي بمناسبة وبدون مناسبة، فهذا شيء آخر، لا شأن له بالأمر الحسن ولا المحمود. وأن تواجهك نصوص الأديب منشورة في كل يوم - وأحياناً في كل ساعة - وبعضها معادة مكررة فهذا، أيضاً، شيء لا شأن له بما هو حسن ومحمود من الفعال.
كثرة نشر الأديب لصوره وبشكل شبه يومي قد ينفّر القرّاء منه بوصفه إنساناً دائم الحضور على مواقع التواصل الاجتماعي، فيصنع الملل منه إنساناً غير مرغوب برؤيته، وهذا ينعكس على نصّه وعلى رغبة القرّاء في قراءة نصّه. فكثرة نشر صور الأديب تصبح عبئاً على النص. مهما كان الأديب وسيماً حسن الطلّة. وقد يُزاد الطين بلّة حين تكون صورة الأديب ينطبق عليها وصف النعمان بن المنذر حين فوجئ بهيأة ضمرة المعيدي القصير الذميم، ولم يكن قد رآه من قبل، فقال حين رآه: ((أنْ تَسمع بالمُعَيدي خيراً من أن تَراه)). ومثلما ينطبق الأمر على تكرار نشر صور الأديب ينطبق على نشر الأديب لنصوصه وبشكل شبه يومي ودائم لتكون وجبة إجبارية للناس. فمثل هذا ،أيضاً، قد يصنع فجوة بينه وبين القرّاء، لأنّه يصنع الملل. فكثرة نشر النصوص تصبح عبئاً على النصوص. وهذه الفجوة تتسع باتساع حضور تلك الصور أو تلك النصوص. وكلا العبأين في كثرة نشر الصور وفي كثرة نشر النصوص وتكرار نشرها هو عبء على نصوص الأديب يتسبب به الأديب نفسه، جهلاً منه بقاعدة أبي تمام الذهبية.
ثمّة ما يمكن أن أسميه ((فجوة الاشتياق))، وهي ضرورية للتلقي. مثلما هي ضرورية للإنسان حتى في مأكله ومشربه، فمهما أحببت نوعا من الطعام سيصبح عبئاً على الذائقة، لو تكرر عليها بإسراف يؤدي إلى الملل. فالأديب البارع يصنع لنصوصه فجوة الاشتياق.
القارئ إنسان محكوم بمزاج رفض التكرار المُمِل. والكاتب المحترف بحاجة إلى حرفية فهم عملية التلقي وفهم مفاتيح نفسية لدى المتلقي ومزاجه. على الكاتب أن يضع نفسه بالمكان الذي به المتلقي. ليكون متلقيا، له مزاج المتلقي ومحكوم بسلطة التلقي ومقوماتها. والكاتب المحترف بحاجة إلى حرفية تسويق أدبه، ولن يكفيه أبداً أن يكون مُتقِننا لحرفيّة الكتابة نفسها. فكرة نشر الكاتب لصورهِ ونصوصهِ بشكل يومي قد ترشّح لدى المتلقي فكرة الشك بالسلامة النفسية للكاتب – وقد يكون محقاً- فتنعكس على تلقي أدبه.
فرق بين سياسي يريد أن لا يغيب عن المشهد، ويرغب بشدّة في أن لا ينساه الناس، فيفتعل مناسبة الظهور للجمهور؛ وبين أديب هو ليس بحاجة إلى ظهور متكرر ويومي، فهو ليس مرشحاً سياسياً لانتخابات، يحدد مصيره فيها جمهور. هو كاتب والجمهور معني بنصوصه المنشورة وليس به. ومن دلائل فعل الأدب في نفس الأديب والرقي بها أن لا يسعى إلى فرض حضوره اليومي على الناس بصفاقة السياسي المترشح لانتخابات.