TOP

جريدة المدى > عام > أكرم الوتري: شاعر القصيدة العضوية 2-2

أكرم الوتري: شاعر القصيدة العضوية 2-2

نشر في: 15 فبراير, 2021: 09:59 م

صلاح نيازي

إن أهم ما يميز بعض قصائد الوتري، بغض النظر عن مستواها الفني، وهي جيدة على العموم - هو صيغتها العضوية،

وربما بهذه الصفة يتميز شعره عن غيره من الشعر العراقي، وربما عن الشعر العربي الحديث: في هذا النوع من الشعر تصبح الكلمات بذوراً، لكل بذرة دلالة. تنمو وتنمو الى النهاية من نفس النسيج لُحمة وسَدى. فاذا بذر لوناً مثلاً في بداية القصيدة سنجده كيف استحال الى لون أفتح أو أغمق، أو ربما استحال الى لون مختلف كدليل على حالة نفسية. وإذا بذر أصواتاً، فانه سيعود إليها مرات ومرات. إن الشاعر في قصيدة كهذه، كمزارع، حين يزرع صوتاً أو لونا، او حين يزرع لمساً أو رائحة أو ذوقاً، فانه لا يني يعود إليها غرساً وثمراً.

لكن قبل الاستطراد أكثر، قد يكون من المفيد أن نذكر حقيقتين هنا: الأولى إن القصيدة العضوية، غنائية كانت أم موضوعية، ليست بنتاً للثقافة مهما كان عمقها وتنوعها، وإنما هي ملكة فطرية قد تصقل بالثقافة. لذا لا يمكن تلقينها.

الحقيقة الثانية: باستثناء بعض طفيف من قصائد محمود البريكان، ومحاولات غير موفقة لبدر شاكر السياب، فإن الشعر العراقي، يكاد يخلو من القصيدة العضوية، وليس في النية التعميم، حتى أقول والشعر العربي المعاصر ولكن لا بد من تبرير القول.

في الشعر القديم يساعد الوزن والقافية، القصيدة في الظهور بمظهر القصيدة العضوية، وهي ليست كذلك إلا ما ندر، وإن كانت متواشجة من حيث وحدة المكان أو وحدة الزمان، أو وحدة الحالة النفسية. نموها نمو عشوائي حينا او تراكمي حينا آخر، لذا كان من السهل على الرواة، التقديم والتاخير في الأدبيات، أو حتى إضافة أبيات أخرى لشاعر آخر ولكنها من نفس القافية والوزن.

كان الشاعر معنياً بالدرجة الأولى بتصوير جو الحالة النفسية التي يعاني منها. بهذه الطريقة يصاب القارئ بعدوى القصيدة واجوائها، إن كانت محكمة التأليف والسبك.

أما في شعر التفعيلة، فقد أصبحت مهمة الشاعر أعسر، لأن ما من قافية يتكئ عليها، وإن أعفى نفسه من الديباجة والبلاغة والفخامة، في المقام الأول.

مع ذلك، فالشاعران، القديم والحديث، يتشابهان في تكوين القصيدة وصناعتها، حيث الأفكار تتداعى، وحيث الكلمات تتنادى. في حالة كهذه، وعملياً، حينما يتملك موضوع ما، شاعراً من هذا الطراز، فانه يقع تحت طائلة سحر الحالة التي يتطلبها ذلك الموضوع. أيْ أنه مأخوذ يترك نفسه على سجيتها، كزورق بلا مجاديف، أو بوصلة. وهنا تتناثر الكلمات تناثراً فيها صفة الحالة ولكنها تخلو من النمو الطبيعي. هكذا تكون الكلمات ثماراً كاملة الطعم، وليست بذوراً تنمو تدريجياً أمام أعين القراء. إنها في اسوأ حالاتها مثل "صندوق العجائب" لا يكون الراوية فيه إلا شاعراً سائحاً، أو مثل مسبحة أهم ما فيها الخيط الذي ينظمها وهو جزؤها الأساسي وليس منها.

تتوضح الفكرة أكثر، لو اطلعنا على مسودات القصائد. - نشرت مرة مسودة لقصيدة كتبها أحمد شوقي. إن التغييرات التي أجريت عليها، واستبدال كلمة بكلمة وكتابة بيت جديد مكان بيت قديم، لا علاقة لها بما فكر به أصلاً، لماذا؟ مع العلم أنه من أقدر الشعراء العرب وأعمقهم فطنة . إن ما يعاني منه بعض القراء من عدم استملاح معظم قصائد التفعيلة وعلى الخصوص، قصيدة النثر، هو التسيّب والعشوائية في انتقاء الألفاظ، كلمة من هنا، كلمة من هناك ومجموعها لا يشكل لوحة. نثار مدوخ من الكلمات، بلا ضابط، أو تقنية، وما اختلاف الشعراء إلا بتقنياتهم المحكمة.

ولكن كيف تسنى لشاعر لم يبلغ العشرين، كأكرم الوتري أن يكتب قصائد عضوية؟ قد لا نجد جواباً شافياً، اللهم، إلا القول بان الشاعر كان صادقاً كل الصدق، وحريصاً على تصوير تجربة عملية مر بها، دون الوقوع بأسر الكلمات وسحرها، ودون اللجوء الى التداعيات الذهنية المتخمرة، من بطون الكتب.

لكن الأفضل أن نضرب مثلاً أو مثلين بشعر الوتري، حتى نبرر فيه القول بأنه يتميز بالقصيدة العضوية في الشعر العراقي، وربما في الشعر العربي الحديث. يبدأ الوترى قصيدته "ظمأ" التي كتبها عام 1947 هكذا:

"يا أخت كم من صورة حلوة

فتانة اللون ومن مشهد

تعيدها عيناك في خاطري

فتحتويني في شذى مسعد

كأنني ما زلت عند الصبا

أمشي مع الأحلام في فرقد"

ان كلمتي "حلوة" وفتانة اللون" وإنْ كانتا تصفان صورة منطبعة في الذهن، إلا أنهما توحيان بجمال وجه حيّ أمامه وبألوان ثياب تلك التي يخاطبها. بدأ الشاعر وكأنه يتصفح "البوم" صور لا تشيخ. تقوم العينان هنا بمثابة الفانوس السحري، الذي أظهر أن اللون ما يزال طازجاً. اختيار اللون كدليل على الجدة موفق تماماً، لأن اللون يحيل ويصدأ ويشيخ قبل المادة التي يكون عليها.

ثمة كلمتان موحيتان كذلك هما: "تحتويني" التي تدل على احتضان، وضم، و"الشذى" الذي ان جمع مع "تحتويني" تتكون لدينا صورة امّ لا تنسى رائحتها. بهذه الصورة يتشكل أمامنا طفل في حضن أمّ. وعلى هذا تكون مناداته "يا اخت" أجمل ما تكون عليه البراءة بين طفلين.

أكثر من ذلك فأن "الشذى"، يملأ الجسد بالانتشاء والتسامي والثمل، مما يمهد الى البيت التالي الذي يحلق فيه الانسان كطائر من شدة النشوة!

"كأنني ما زلت عند الصبا

أمشي من الأحلام في فرقد"

وكأن المشي في كوكب عال ناجم عن ذلك "الشذى". بالاضافة الى ذلك فقد تكون حاسمة الشم، خاصة إذا اصبحت ذاكرة، اقوى الحواس في ارجاع الانسان الى منشئه الاصلي الاول.

في المقطع الثاني من قصيدة ظمأ:

"ولم نزلْ طفليْن نقضي الشتا

ونحتمي من عالمٍ مرعدِ

في غرفة يبسم منها الضيا

وينشد الشاي على الموقدِ

وعمّةٍ تروي لنا قصةً

عن عاشقٍ مات ولمْ يُسعدِ

والهرّة البيضاء في حضنها

كأنها ثلج الشتاء الندي"

ثمّةَ علاقة بين "تحتويني" في المقطع الأوّل، و"نحتمي" في المقطع الثاني.

كلاهما يدلّ على طفولةٍ، وعلى طمأنة من خوف. الفعل: نحتمي يأخذ كذلك، بعداً آخر، لاسيّما وهو يقترن بالرعد، ولكنْ بعد أنْ تخدّرتْ الحواسّ بالشذى، وغابت عن وعيها، يكون الرعد أكثر مجلبة للفزع، ولا شكّ وقعه أشدّ على طفليْن.

في المقطع أعلاه عالمان متناقضان، سمعاً وبصراً. عالم شتائي مرعد في الخارج وهو مغيم مرزم. لذا فكلمة نحتمي تصوّر ما نزل على قلب الطفليْن من فزع. لذا سيكون العالم الداخلي أي الغرفة ملجاً أكثر أماناً، بينما يأخذ الضياء أهميته من الظلمة في الخارج. أمّا "ينشد الشاي على الموقد"، فيصبح وكأنه تنويمة مُطَمْئنة. كما أن الموقد هنا لا يعني تفادي الشتاء ورعوده في الخارج، ولكنّه يعني أيضاً، سريان الدفء في الأوصال واحمرار الوجوه خاصّة، لما تعكسه عليها النار من تورّد وحرارة. وزيادة في الاطمئنان، وكنقيض للرعد، يأتي دور العمّة والقطة الآمنة في حضنها، وما لونها الأبيض إلاّ إشاعة الحميمية والنقاء والبراءة.

لا ننسَ، ملمس فروها الناعم ودفئها الطبيعي وهو على نقيض المطر الشتائي القارس.

بهذه الصورة قابل الشاعر الشابّ، بين العالم الخارجي: الطبيعة، وبين العالم الداخلي: الغرفة. فمن حيث الصوت قابل بين الرعد وإنشاد الشاي، وربما بربرة القطة، ومن حيث اللون نرى العتمة أوّلاً وهي مرعبة، وبين النور المصنوع، وقد تدرج من التوهج في الموقد، إلى بياض القطّة، وهذه كلّها تعيدنا إلى البيت الأوّل في القصيدة:

"يا أخت كم من صورة حلوة

فتّانة اللون وكم مشهدِ".

لكنْ لماذا قال الشاعر عمّة ولم يقل جدّة، كما هي العادة؟ هل للطفلين صلة قرابة؟ هل تطوّرت هذه الصلة فيما بعد؟ هنا تكمن كثير من أسرار قصائد "الوتر الجاحد" الذي يخبر عن جحود في الحب بين ذينك الطفلين فيما تلا من سنوات النضج.

يبدو ان الوتري، مرّ، بتجربة عاطفية خائبة، سرعان ما كانت تحوّلاً خطيراً في حياته، وبالتالي في تجربته الشعرية. يقول الوتري:

"يوم مطير بعد ذاك المساء

وعالم أسمع فيه الحفيفْ

والسحب تطفو في رحاب السماء

كصفحة ضاعت عليها الحروفْ"

توقيت المطر، مع "بعد ذاك المساء"، إنْ لم يكنْ دمعاً، فإنه يضطرّ الإنسان إلى ملجأ، فاختلاء. واسم الإشارة: "ذاك" يوحي بما لذلك المساء من حدث جلل، يُؤَرَّخ به، بحيث أصبحت الأصوات مجرد حفيف لا يبين فيها الكلام. بهذه الوسيلة عطّل الشاعر حاسّة السمع ليتفرّغ إلى تشويش حاسة البصر بالحيرة التي مهّد لها بالسحب المتحرّكة في رحاب غير محدودة. وحينما قال:"كصفحة ضاعت عليها الحروف، تكون الحيرة قد آكتملت، وكأن الشاعر قد تفكّك عالمه واستغلق، وكأنّ حواسّه قد تعطّلت جميعاً.

يعود الشاعر في المقطع الثالث إلى حاسّة البصر بمشهد مأساويّ:

"ذبابة تخفق خاف الزجاج

يضمّها مثلي انتظار مخيف

سيقتل الإرهاق هذا الهياج

وتنتهي قبل انتهاء الخريف".

كلمة: "مثلي" في السطر الأوّل، ذات دلالة. فهل وصلت المأساة بالشاعر إلى درجة جعلته بلا أهمية كحشرة. يقول راوية القصيدة:

"رضيتُ يا نفسُ الخمودَ الجريح

وهذه الرقدة في الهاويهْ

متى يمرّ العمر كي نستريح

وتنتهي أحلامنا الذاويهْ"

هكذا بتعبيري: "نستريح" و"أحلامنا"، جعل الحشرة جزءاً أو باتت جزءاً منه.

على أية حال، آبتدأ الشاعر بيوم مطير، وسماء محجوبة بالغيوم، ووقت معلوم. ولم يبق منها في آخر القصيدة إلاّ أصداء شرسة. ففي الهاوية المظلمة يتوقف الزمن أو لا أهميّة له. قابل الشاعر مرور السحب بمرور أيّام العمر، وقابل تصبب المطر في البداية، بالنزيف في النهاية.

قلنا إن القصيدة العضوية، وهي نادرة في الشعر العربي، تنمو تدريجيّاً بحيث

تلتقي نقطة نهايتها بنقطة بدايتها كالدائرة سواء بسواء.

ملحظ: حاولت استدراج المرحوم أكرم الوتري في مراسلاتنا إلى إماطة اللثام عن سرّه الدفين في الحبّ، ولكنه طالما تغافل بأدب وآتزان.

يبدو من قراءة: " الوتر الجاحد" وهذا استنتاج شخصي، أن الفتاة المعنية كانت تسعى إلى شريك لحياتها. يبدو أن الشاعر لم يكن على عجلة من أمره. وهكذا حينما سنحت لها الفرصة، قبلتها. عندئذ صحا الشاعر على عظم مأساته التي عصفت بمجرى حياته عصفاً شديداً، فاستسلم إلى أعتى يأس، وأصعب حيرة. انقطع عن الشعر كليّة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أوس الخفاجي: إيران سمحت باستهداف نصر الله وسقوط سوريا

عقوبات قانونية "مشددة" لمنع الاعتداء على الأطباء.. غياب الرادع يفاقم المآسي

مدير الكمارك السابق يخرج عن صمته: دخلاء على مهنة الصحافة يحاولون النيل مني

هزة أرضية جنوب أربيل

مسعود بارزاني يوجه رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram