علي حسين
عندما سينكبّ المؤرخون في غدٍ قريبٍ على كتابة تاريخ هذه السنوات العصيبة التي عاشها العراقيون.. سيتذكرون حتماً أن رجلاً يبلغ من العمر خمسة وثمانين عاماً اسمه البابا فرنسيس، قطع مئات الكيلومترات ليقول للعراقيين الذين أثقلتهم هموم البرلمان وتقلبات الساسة وصراع أصحاب السلاح بيد الدولة:
"إنني متضامن معكم، أنا هنا بصفتي تائباً أرجو المغفرة لكل هذا الدمار وحاجّاً يحمل السلام، فلنضع حداً لانتشار الأسلحة في كل مكان ولنوقف المصالح الخاصة ولنعط مجالاً للتسامح".. حيث ستروى من خلال رحلته حكايات العراق.. البابا فرنسيس حمل السلام معه، لكن البعض سخر من هذه الزيارة، بل ذهب أكثر من ذلك حين طالب العراقيون بعدم الترحيب بالزائر الكبير.. وأنا أنظر إلى وجه البابا فرنسيس يلقي كلمته في كنيسة النجاة، تذكرت كل الآباء الذين منحوا هذه البلاد بركاتهم، واختلطت ّ ملامحهم بملامح هذه الارض ، ولاح لي وجه الأب أنستاس الكرملي وهو يبتسم ، مطمئنا من ان غراب الشر لن يتمنوا من سرقة تاريخ هذه البلاد .
لم يكن الكرملي مثقفا جامعا للطوائف والمكونات العراقية فحسب، بل كان قادراً على التعريف بالعراق ونقله الى أفاقأوسع وأرحب، كان هذا القس واحدا ممن صنعوا الثقافة العراقية في مرحلة حاسمة من تشكل الوعي، وقد كان أثره طاغيا،و بصماته واضحة، نظر للإسلام بوصفه التجلي الحقيقي لعبقرية اللغة العربية، ولذلك كرس كل جهده لخدمتها.
مازلت أتذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها صورة "أبونا" الكرملي، كان ذلك في عيادة الطبيب ألبير حكيم التي كنت أتردد عليها بصحبة والدي حيث يستقبلنا الحكيم ألبير بابتسامته الرقيقة والسمحة وببركات سيدنا المسيح التي يمنحها لزواره وبعلمه الغزير الذي يشفي به مرضاه، هناك وقعت عيناي على صورة لرجل عجوز تغطي لحيته المساحة الأعظم من وجهه وحين سألت الطبيب عنه قال إنها صورة "الأب أنستاس الكرملي"، اعتقدت حينها أن الكرملي هو والد الطبيب ألبير ما دام يسميه بـ"الأب"، بعد سنوات أصابتني الدهشة وأنا أرى اسم الأب الكرملي على أعداد من مجلة لغة العرب حصلت عليها من إحدى المكتبات لأكتشف أن صاحب الصورة واحد من بناة النهضة الحديثة في العراق، استطاع من خلال مجلته "لغة العرب" ومجلسه الشهير في كنيسة اللاتين أن يؤسس لثقافة عراقية حديثة مع نخبة من تلاميذه وأصحاب التفوا حوله.
يخاطب البابا فرنسيس العراقيين قائلا :" إن الصعاب جزء من حياتكم اليومية، أنتم المؤمنين العراقيين. فقد كان عليكم وعلى مواطنيكم، في العقود الأخيرة، أن تواجهوا عواقب الحرب والاضطهاد، وهشاشة البنى التحتية الأساسية، وأن تناضلوا باستمرار، من أجل الأمن الاقتصادي والشخصي " . وقال الكرملي لمصطفى جواد "وأنا أكتب تاريخ العراق ، اكتشفت أن هذا الشعب دائماً ما يتغلب على مصاعبه ".