قراءة: علاء المفرجي
بعد أكثر من أربعة أشهر تفشل محاولة محمد سويدي، الناقد والمخرج السينمائي اللبناني في الهجرة إلى فرنسا، فيقفل راجعاً إلى عشقه الأول بيروت،
وبما يشبه تصفية حساب نفس أمارة بهجر من تعشق، يعود إلى دفتر أخضر قديم كان قد ملأه وهو ابن الثالثة عشرة بعناوين أفلام أدمن مشاهداتها في صالات البرج.
«يا فؤادي» صرخته، أو عنوان كتاب يأتي بعد ثلاثة عقود من كتاب (السينما المؤجلة: أفلام الحرب الأهلية اللبنانية)، وهو سيرة سينمائية عن صالات بيروت الراحلة.. دفعت سويد إلى حمل آلة التسجيل، والدخول الى أصحاب دور العرض والموزعين، حباً بسماع ذكرياتهم عن السينما والصالات التي ورثوها عن آبائهم، أو تولوا تأسيسها، وأضحت اليوم نسياً منسياً..
الكتاب سيرة شخصية وسينمائية عن صور وأماكن ووجوه.. وهو خلاف لما يقول مؤلفه يحمل عناصر السرد اللازمة لنشأة دور العرض السينمائي في بيروت، وهو في جانب مهم منه حنين إلى صور وأماكن ووجوه ذهبت بدداً في الزمان.
ورغم جهد المؤلف الإفلات من أسر البدايات، أعني بدايات ظهور صالات العرض في هذه المدينة المفتوحة، إلا انه يفرد فصلين من كتابه في توثيق لاسماء وعدد صالات العرض، هو الذي وقع في «هوى الصالات أكثر من حب السينما» كما يقول، ذلك أن السينما نزوع الى الماضي ودور العرض صانعة ذكراها.
جهد كبير يبذله المؤلف في إختفاء الخطوات الأولى التي رسخت ظهور صالات العرض، وخاصة في شارع الحمراء وساحة البرج.. من خلال النبش في الوثائق ولقاء من تبقى من أصحاب صالات العرض في بيروت.. طقوس وأفلام واسماء مهمة يمسحها المؤلف محمد سويد يتجلى منها تاريخ هذه المدينة على مدى قرن من الزمن، دور عرضه تتناسل ويتناسل معها أمكنة وشخصيات وأحداث تستمد حضورها من اندفاعة مجتمع نحو التطور.
لكن سويد في بحثه هذا، وكأنه يرثي زماناً ومكاناً، نالت منه شرارة حرب الإخوة الاعداء على مدى اكثر من أربعة عشر عاماً.
«شلّت الحرب وسط العاصمة وأقفلت صالات البرج أبوابها، واستنجدت صالات الحمراء بأفلام» اليورنو» نازعة عن نفسها رداء « شانزليزيه» الشرق العابق بالروائح».
الحرب لم تُجهز على مراكز الترفيه حسب بل أدخلتها في صفقات بين أمراء طوائف الحرب.. وفي قراءة ولا أبدع يأخذنا محمد سويد في التحولات التي أحدثتها هذه الحرب، في ما خص صالات العرض ومصالح العوائل التي تمتلكها، يا فؤادي يكتسب خصوصية من كونه كتاباً عن دور العرض السينمائي تلك التي يسميها بارت قاعة الأحلام، يكتبه سينمائي شغوف بفنه، فكان سرداً يكتفنه الحنين لزمن ومكان ابتلعتهما ماكنة الحرب.
يقول المؤلف محمد سويد: «على مدى سبع سنوات، تجمعت لدى أوراق وأشرطة رديئة التسجيل، حسبت، وأنا أعمل على تفريغها وتدوينها، تمهيدا لنشرها في مناسبة ما، إنها ستحمل عناصر السرد اللازمة لنشأة دور العرض السينمائي في بيروت، هذا الكتاب ليس في نهاية المطاف إلا شبه سيرة شخصية وسينمائية عن تلك الصور والأماكن والوجوه التي خلت أنها طوت نفسها، فاذا بها تسري أرقاً في حياتي.»
ويقول الشاعر عباس بيضون عن الكتاب: “كتاب محمد سويد يرشدنا إلى فيلمه. فهذه الأم التي تسبح في الهواء، ميتة جميلة خفيفة، كأنّها من صور الخالة التي رجته أن لا يعود لزيارتها كيلا يراها تموت، وهذا العشق للماء الضحل، للنقع، للأحواض ألم يغرقه من حب السينمائي الروسي تاركوفسكي؟ وهذا الرجل الذي تأخر في الوصول إلى الجنوب، حتى بات آخر الواصلين، أليس أيضاً الرجل الذي تأخر في الوصول إلى السينما؟ ألم يكن دائماً عديم الاهتمام بالزمن ككل الذين يرون أكثر مما يعيشون، يرون ولا يعيشون؟»
الكتاب الذي زاد من أهميته هو ما تضمنه من صور عن صالات العرض، وخاصة تلك التي هدمت في الحرب الأهلية، ليس في نهاية المطاف إلا شبه سيرة شخصية وسينمائية عن تلك الصور والأماكن الوجوه التي خلت أنها طوت نفسها، فإذا بها تسري أرقاً في الحياة.”
الكتاب يقع في مقدمة أو (مقدمات) كما اسماها .. وسبعة فصول. الأول عنوانه (نهايات) والثاني (بدايات) والثالث (ذكريات) وفيه (همسات) و(رعشات) و(متاهات) و(روايات). رابع الفصول توافق مع (الروي) نفسه المتكرر في عناوين سائر المحتويات فجاء عنوانه (شاشات) وحل بعده الفصل الخامس (تمتمات) والسادس (سكرات). وكان السابع أكثر من الفصول السابقة بروداً وحيادية فحمل عنواناً هو (احصاءات).
في الكتاب تاريخ وشهادات وأرقام وصور وذكريات لعديدين واسماء كثيرة مرت في تاريخ بيروت السينمائي والاجتماعي في حقبة معينة .. صور من بيروت القديمة وناسها وشوارعها ودور السينما فيها ..(افيشات) أفلام قديمة ومبان من عالم زال وطُرف وقصص.
في باب احصاءات عنوان هو (صالات السينما العاملة عشية الحرب) في لبنان بين سنة 1975 وسنة 1990 وفيه اسماء 164 صالة عرض من العاصمة حتى المناطق البعيدة مع درجات تصنيفها ومواقعها وعدد مقاعدها.
ومحمد سويد هوكاتب لبناني و ناقد سينما و مخرج أفلام وثائقية. وُلد في بيروت وبدأ مسيرته المهنية ناقداً سينمائيّاً في صحيفتَي “السفير” و”النهار” و كاتب لمجموعة من الكتب والدراسات مثل “السينما المؤجلة” و “يا فؤادي.” قام بإخراج فيلمه الأول “غياب” في 1990 و ثم بادر في إخراج أفلامه الوثائقية و برامجه التلفزيونية و عرف خاصة لثلاثيته الوثائقية ذات السمة الذاتية هي: “تانغو الأمل” (1998) و”عندما يأتي المساء” (2000) و”حرب أهلية” (2002). يعمل في الوقت الراهن كمنتج أول ومدير إدارة القسم الوثائقي في قناة العربية الإخبارية في حين لا يزال يصنع أفلامه الخاصة (2010) .