موج يوسف
اعتنق بودلير صفات معشوقته التي تعاني من ندبات الجدري ، ودماثة الشكل ممّا انعكس على تجربته في الحبِّ والأدب وظهرت المفارقة العجيبة في ديوانه أزهار الشر.
القباحةٌ مفهومٌ دخلَ في مفاصل الحياة الإنسانية وقد ارتبطت بكلّ ما هو ثقافي ، هذا ما تفصله غريتشن . هندرسن في دراستها بعنوان ( التاريخ الثقافي للقباحة) والصادر مؤخراً عن دار المدى . فقد وجّهت سؤالاً : هل القباحة بحث ثقافي؟ وهذا السؤال لا يتطلب إجابات افتراضية قطعية بقدر ما يحتاج العودة الى التاريخ وعرض استقراء ما موجود فيه عن القبيح ، وضعت الباحثة رحالها البحثية عند العتبة الأولى بعنوان ( الأفراد القبيحون) وقد وجدت ما يعزز حجتها ، أن التاريخ مليء بالقباحات فالحضارات القديمة ، واليونان والأغريق كانوا حريصين بشكلٍ خاصٍ على تجنب إي عادة تسبب التشوّه ، والفيلسوف الحكيم أرسطو قد ((اقترح قانوناً يمنع الأهل من تربية الأطفال المشوهين ، بينما كان الأهل في سبارطة مجبرين بحسب القانون على التخلص من المواليد المشوهين)) ص 44 والمؤرخ القديم هيرودوتس ادّعى (( أن البابليين كانوا يقيمون مزادات لتزويج بناتهم يحصل فيها على من يدفع على اقل عروس بشعة وأن المال الذي يكسبونه من عرض الجميلات بالمزاد يستخدم لتمويل مهر أخواتهن القبيحات))41 ، حتى في مصر القديمة نلحظ تصوير أمنحوتب الرابع/ أخناتون ونفرتيتي يحملان ملامح قبيحة ، وغير جذابة لأن(( قباحة الصورة مؤشراً على القوة الكامنة)) . بعد العرض التاريخي لم نستطع حصر هذا المفهوم بقدر ما تبين أنه ممارسةٌ اجتماعيةٌ خارجة عن السرب الرتيب. وتأتي الحكاية والخرافة وهي جنسٌ أدبي يحتضن القبيح ويعاكسه بالجميل ؛ كي يفرق بين الخير والشر، فلو عدنا إلى كل الحكايات القديمة ـــــ الف ليلة وليلة مثلاً ــــ نجد الشخصيات الشريرة تحملُ شكلاً قبيحاً . وكان الفن التشكيلي والنحت قديماً وحتى العصور الوسطى يحتضن لوحات تعتمد على القباحة كلوحة الدوقة القبيحة ، ولا نغفل عن ذكر ( أورلان) الفنانة الجسديّة التي تنشط في مجال الاستعرضات وفن الجسد وقد خضعت إلى سلسة عمليات تجميل ؛ كي تعيد تكوين ملامح وجهها بما يتطابق مع أجزاء من وجوه حسناوات الأعمال الفنية الشهيرة في الفن الغربي ولقد كتبتْ ( كل ثقافتنا تقوم على مفهوم « أو « أمّا أعمالي فجميعها تقوم على مفهوم «و» السيئ والجيد ، الجميل والقبيح)ص81 وهذه مقاربة واضحة لنبذ التميز الذي فرضه التقليد الحياتي. وحين ساد نبذ القبيح أختلط علينا مع باقي المفاهيم وصرنا لا نفرق بين المشوّه والقبيح وهذا ما قد نبهتنا عليه الباحثة عندما أوردت مقالة الإنكليزي ( ويليام هاي) الذي كان أحدباً طيلة حياته ، وعانى من الجدري وضعف البصر وكان عضواً في البرلمان وألف مقال ( التشوّه) وجادل هاي (( أن جسده المشوّه لا يعكس روحاً مشوهة وتحدى الافتراض السائد بأن التشوّه هو خصلة موروثة ، فوصف والده بأنّه ليس مشوهاً وأمه بأنها حسناء))ص 65 فيقدم لنا لاهاي رؤية جوهرية للقباحة في برطانيا بصفته شخصاً داخل الوسط السياسي لكنه خارج المجتمع ، كذلك يفند الحكيايات التي تزعم أن كل قبيح شرير. ومن أجل إلغاء النظرية النمطية عن القباحة قام الرسام توماس الذي ولد من دون ذراعين وساقين برسم بورتريهات واقعية لنفسه من خلال بعث رسالة تغلي النظرة الدنيئة للأفراد المشوهين. هناك سؤال قد علق في ذاتنا هل الأدب قد خلا من القباحة؟ الأدب يساعدنا على فهم الحياة كالفسلفة وهذا ما جعل مؤلفة الكتاب تستحضر النصوص الأدبية ، فقد رأت أن هناك مقاربة أدبية تنوعت ما بين الحديث النبويّ ، والنصوص الأدبية ، والنثر التاريخي ، ورسائل الصداقة والوعظ الأخلاقي ، والسير الذاتية في الأدب العربي القديم لأنَّها رأت أن (( هناك مثالان هامان عن أدب العاهات تتمحور والانطولوجيا وحول البلاغة المتمثلة بتقبيح الجميل و تجميل القبيح))ص101 .فالعاهات تتجمل ببلاغة النّص وجماله وهذا ما جعل الباحثة تذكر الشاعر تقي الدين الدمشقي الذي قد جمع 160 بيتاً شعرياً ضم العديد من العاهات بتورية بلاغية فمثلاً : سألته عن يده ماالذي يوجعها / فقال كُسرت ، أجبته وكذلك قلبي. والثعالبي في مؤلفاته ( تحسين القبيح وتقبيح الحسن) وللجاحظ ايضاً . والقارئ لهذي السطور لو عاد وقرأ النصوص العربية سيلحظ أنها ترفّعت عن وصم الجسد بالعاهة وبالمشين . نحن ذكرنا أن القباحة تسللت إلى جميع مفاصيل الحياة فهذا يعني أن الحواس قد توسمت بها وهذا ما اطلقت عليه هندرسن بـ( الحواس القبيحة) فالعين الباصرة في الثقافات القديمة وحتى المعاصرة تؤمن بأن العين الشريرة الحاسدة أو الشيطانية قد تؤذي من يراها عند اللقاء ، والسمع قد يرفض القباحة وهذا ما جعل الباحثة تفرد له جزءاً في دراستها ، وتنطلق من مقال كتبه الموسيقي البريطاني تشارلز عن ( معنى القباحة) فرأى أن التقدم الفني لا يتمّ الا عبر ما سبقت إدانته إنَّه قبيحٌ من قبل سلطات فنّيّة معترف بها ، ومنه تكوّنت فرضية التقدم الفني عند جاكسون يولوك ، والناقد روجر مراي وغيرهم . وقباحة الحواس هل تكتفي بذكر الحواس الخمس ؟ بل إن هناك حاسة سادسة وهي موجودة في تقاليد البوذيّة التي تدّعي وجود هذه الحاسة وتنطلق من الإعتقاد أو الشعور ، كما اعتقدت الرومان بوجود عفاريت تحيط بيهم . القباحةُ منتشرةٌ في العالم المادي ، لكنهّا مفهومٌ فكري يتوغل في كلّ شيء ، وتبقى هي سؤالاً ثقافياً يحتاج البحث ويتطلبُ إجابات تكشفُ عن جوهره.
جميع التعليقات 2
Anonymous
مقال مهم ويدعونا لتامل العديد من الامور الخاصة بالانسانية والادب والفنون . تحياتي
حيدر فرج
يبدو أن الكاتبة اقتصرت على القبح الظاهري للأشياء من دون الإشارة إلى القبح المعنوية - قبح ما وراء الماديات - بمعنى أن القبح والحسن أمران يستوعبان مفردات الوجود بما فيها الفكر والأخلاق والمشاعر .