أ.د. ضياء نافع
مازلت اتذكّر قهقهات طلبتي في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد وتعليقاتهم , عندما كنت أقرأ لهم ( ضمن مادة النصوص الأدبية ) مقاطع من هذا العمل الابداعي المتميّز لغوغول ,
وأحاول أن اجعلهم يساهمون معي بترجمة تلك المقاطع الى العربية, وعندما وصلنا الى المقطع الذي يصف فيه غوغول كيف وجد أحد ابطاله (أنف زبونه في قطعة الخبز), فاذا بواحدة من الطالبات ( التي كانت بالكاد تحاول أن تسيطر على ضحكها ) تسأل – همسا - زميلتها ( وبلهجتها العراقية الجميلة ) – (.. شنو غوغول جان مخبّل ؟) , أي , هل كان غوغول مجنوناً ؟ ولم تجرؤ هذه الطالبة طبعاً أن تطرح عليّ هذا السؤال , أما أنا , فقد تغاضيت عن ذلك , واستمر الدرس وكأنني لم اسمع تلك الهمسات , وأنا أحاول أيضاً أن أكتم ضحكي , ونسيت الأمر بعدئذ كليّا , ولكنني تذكرت (همس طالبتي!) الآن , وبعد مرور أكثر من ربع قرن , عندما قرأت ما كتبه الصحافي محمد حسن المرزوقي بمقالته بعنوان – ( أنف غوغول ) في صحيفة ( الإمارات اليوم ) حول انطباعاته بشأن رواية غوغول القصيرة - ( الأنف ) , فهو يقول – ( ...لو أردت أن أصف غوغول ..بكلمة , فلن أجد أفضل من كلمة مجنون ..) , أي إنه كرر واقعيا استنتاج طالبتي آنذاك في تلك السنين الخوالي حول جنون هذا الكاتب , الذي كتب لنا ( الأنف) , إلا أن الصحافي هذا ( وكذلك طالبتي طبعا ) كان مندهشاً ومعجباً جداً بذلك النتاج غير الاعتيادي بكل معنى الكلمة , وكتب خلاصة صحيحة جداً وذكيّة عنه , قائلاً - ( ...إنها ... قصة موغلة بالرمزية ... وكل قارئ يستطيع تفسيرها بطريقته الخاصة ...) , وهذا تحديد دقيق فعلاً , وقد رافق هذا ( التحديد!) واقعياً تلك الرواية القصيرة منذ أن كتبها غوغول عام 1834 وذهب بها الى إحدى المجلات لنشرها , إلا أن المسؤول هناك رفض ذلك , و اعتبرها غير صالحة للنشر, إذ إنه لم يفهم - ( كيف يمكن لإنسان أن يستيقظ من نومه ويكتشف أنه بدون أنف ؟) , ولكن بوشكين ( شاعر روسيا الأكبر ) نشرها عام 1836 في مجلته ( سفريمينك ) ( المعاصر) وبكل إعجاب , إذ إنه ( فسّرها بطريقته الخاصة !) , وكتب ملاحظة حولها , وقال فيها , إن غوغول لم يوافق على نشر هذه النكتة , لكننا وجدنا فيها فنتازيا ومرح وأصالة , واقنعناه أن يسمح لنا أن نتقاسمها مع الجمهور والتمتع بها , أي أن بوشكين وجد فيها تلك الصورة الفنيّة الأصيلة والمبتكرة , التي تعكس خيال غوغول وغرائبيته وعالمه الخاص به , والذي يميّزه عن كل الأدباء الروس الآخرين حوله . ومنذ ذلك الحين , أي منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر والى حد الآن ( ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ) , يوجد دائماً من ( يفسّر) هذا النتاج بطريقته الخاصة , رغم أن النقد الأدبي الروسي آنذاك لم يركّز على ( أنف ) غوغول , بل كان مشغولاً بجوانب أخرى كثيرة ومتشعبة من نتاجاته الابداعية , مثل مسرحيته المدويّة ( المفتش ) , والذي حضر القيصر الروسي نفسه عرضها الأول عام 1836 في بطرسبورغ , أو ببطله ( تاراس بولبا ) , تلك الشخصية الاوكرانية البطلة , التي كانت تمجّد الامبراطورية الروسية وقيصرها ضد البولونيين , والذي قتل ابنه لأنه تعاون مع الاعداء البولونيين , ولم يتوقف عند ( الأنف ) حتى بيلينسكي , الناقد الادبي الروسي المعروف , والذي لا زال اسمه يرتبط برسالته التوبيخية الشهيرة الى غوغول و ردود الفعل المتباينة بشأنها لحد الان , رغم أن بيلينسكي أشار الى ( الأنف) في تعليق سريع في نفس مجلة بوشكين بعد عددين من صدورها, وتحدث قليلاً عن ازدواجية بطلها ليس إلا , وهي نقطة تعبّر بشكل دقيق عن وجهة نظر معروفة لهذا الناقد , الذي كان يؤكد دائماً على الجانب الاجتماعي في كل النتاجات الأدبية , بل إن هناك من كتب , إن غوغول في روايته القصيرة الأنف ( شجب !) النظام القيصري في روسيا آنذاك , وإن غوغول أراد أن يقول , إن هذا نظام يعتمد على الرشاوى ...ولا مجال هنا لعرض كل وجهات النظر المتباينة عن هذه الرواية القصيرة لغوغول , ولكن من المؤكد , إن هذا التباين الصارخ ( إن صح التعبير ) يثبت , حيوية هذه الرواية لحد الأن , وخير دليل على ذلك , إنها تحولت الى اوبرا على يد الموسيقار السوفيتي شيستوكوفيتش , والى فلم سينمائي سوفيتي , وساهم المسرح السوفيتي في مسرحة هذا النتاج أيضاً , بل هناك فيلم فرنسي وآخر بولندي لها , ولكن ألطف وأغرب من ذلك ما حدث في بطرسبورغ عام 1995 , اذ تم افتتاح تمثال لهذا ( الأنف ) , وفي نفس الشارع الذي ذكره غوغول في روايته , إلا أن هذا التمثال اختفى , وهكذا ( ضاع) أنف غوغول مرة أخرى , فقرروا عمل تمثال بديل , وأنجزوه فعلا عام 2002 , ولكن تم ايجاد التمثال الأول , فقرروا اعادة التمثال القديم الى مكانه , ووضعوا التمثال الثاني ( البديل) في مكان آخر عام 2003 , وهكذا أصبح لهذا الأنف تمثالين في بطرسبورغ , وفي عام 2009 , وبمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لميلاد غوغول ( والتي أعلنت منظمة اليونسكو أنها سنة غوغول ) تم افتتاح تمثال ثالث لهذا الأنف في كلية الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها ) بجامعة بطرسبورغ , وهناك تمثال رابع له في كييف – عاصمة جمهورية اوكرانيا ( وطن غوغول), إذ أن غوغول تحوّل الى مادة للصراع الروسي – الاوكراني كما هو معروف ...
لقد أصبح (أنف) غوغول شهيراً جداً و متميّزاً فعلاً في مسيرة إبداع غوغول بشكل خاص , و في تاريخ الأدب الروسي بشكل عام , وحتى في ( عدد!) التماثيل التي اقيمت لهذا (الأنف !!!)...