ثائر صالح
أنشر هذا الأسبوع ترجمتي لكتابة الموسيقار المجري بيلا بارتوك (1881 – 1945) عن الأغنية والموسيقى الشعبية، وهو أحد أبرز من جمع الموسيقى الشعبية.
كان بارتوك يعيش في الولايات المتحدة الأميركية وقت كتابة هذه الوثيقة الهامة في 1943، أثناء الحرب العالمية الثانية.
"لم يكن ازدهار أبحاث الأغاني الشعبية وترعرع الفن الموسيقي الراقي النابع من الأغنية الشعبية في المجر بالذات محض مصادفة، فالمجر تتوسط شرقي أوروبا جغرافياً، وكانت المجر قبل الحرب العالمية الأولى صورة مصغرة حقيقة لتنوع شعوب أوربا بفضل تعدد القوميات التي تقطنها، وقاد هذا التنوع في الأقوام والاحتكاك المتواصل بينها إلى تكون أشكال مختلفة ومتعددة من الموسيقى الشعبية؛ وهذا هو تفسير سبب ذلك الغنى المدهش للموسيقى الشعبية في شرق أوروبا بأشكال الأغنية الشعبية وفي المحصلة النهائية بالأغاني الشعبية، وليس من العجيب أن يهتم موسيقيو المجر - المركز الذي تتقاطع فيه الطرق - بهذا الكنز الموسيقي المذهل لهذه الدرجة. وأثمر هذا الاهتمام ثمرتين: الأولى هي ظهور البحث والوصف والتصنيف والمقارنة العلمية لأنماط الأغاني الشعبية في شرقي أوروبا، وقاد ذلك البحث في خاتمة المطاف الى خلق علم جديد هو "علم أبحاث الأغنية الشعبية المقارن" (على نمط "علم اللغات المقارن"). والنتيجة المهمة الثانية والتي يجب فصلها عن الأولى، هي ظهور الموسيقى المجرية الحقيقية بتأثيرٍ من المادة الموسيقية الشعبية التي لا يماثلها شيء آخر، إن انبعاث الفن الموسيقي على تربة كنزٍ من الموسيقى الشعبية، لم يعرف سابقاً ولم يستهلك بعد والذي يتمتع بحيوية كاملة؛ أصبح في المجر نظرة وفلسفة جديدة. إن الأوروبيين الغربيين بعيدون عن الواقع عندما يقصرون هذه النظرة الجديدة على تسمية تيار فولكلوري في الموسيقى، مع شيء من الاحتقار، لأن الأمر لا يتعلق بتطعيم المادة الموسيقية بقطع "فولكلورية"، بل هو أكثر من ذلك بكثير: انبعاث روح موسيقية جديدة على أساس قوى موسيقية نبعت من الأرض.
كذلك يخطئ الذين يعتقدون بأن دراسة هذه القوى النابعة من الأرض، أو ما يعبر عنه بلغة مفهومة: جمع الأغاني الشعبية، هو عمل بالغ الصعوبة ويتطلب تحمل الحرمان والتضحية، وحسبما يتعلق الأمر بي شخصياً، فلا يسعني إلا أن أقول بأن تلك الفترة التي قضيتها في مثل ذلك العمل كانت أجمل فترات حياتي، ولن أبدلها بأي شيء آخر. كانت الأجمل، بأنبل معاني هذه الكلمة، لأني أصبحت شاهدا على ذلك البناء الذي هو انعكاس فني لايزال موحداً لتشكيلة اجتماعية أخذت بالاختفاء التدريجي، جميل للأذن، جميل للعين. ولربما لا يمكن تصور ذلك هنا في الغرب، تصور مناطقاً هناك في أوروبا لا يرى فيها المرء أدوات الاستعمال اليومية إلاّ وهي تصنع في البيت، من الملابس حتى أدوات الورشة، حيث لا تجد لمـلوماً صُنِع في المعامل، حيث شكل وطبيعة هذه الأدوات تختلف من منطقة وأخرى، وفي أحيان كثيرة من قرية الى أخرى، وبقدر ما تتمتع الأذن بهذا التنوع المميز للألحان، تتمتع العين بقدر مماثل من التنوع. أنها متعة لا تنسى، إنها ذكريات مؤلمة لأننا نعلم بأن حال القرية هذا محكومٌ عليه بالدمار، وإذا ما تدمر يوماً، فأنه لن يُبعث مرة ثانية ولن يحل محله شيء مشابه. يبقى بعد اندثاره فراغ كبير: فراغ لا يصلح لغير تجميع نفايات الثقافة والثقافة المزيفة للمدينة.
أنها حياة الفلاحين، أسمحوا لي التعبير عما لمسته من علاقة الفلاحين الذين ينتمون الى قوميات مختلفة بعضها ببعض. الآن، عندما تقتل هذه الشعوب بعضها الآخر لتنفيذ الأوامر العليا، عندما يبدو للعالم كما لو أن الشعوب هناك تحاول خنق بعضها الآخر بملعقة ماء - وهذا ما نسمعه منذ عقود - لربما كان من المناسب الإشارة الى انعدام الكراهية عند الفلاحين تجاه الأقوام الأُخرى، ولم توجد مثل هذه الكراهية في السابق أيضاً. أنهم يعيشون بعضهم مع بعض بسلام، كلٌ يتكلم بلسانه ويمارس عاداته وتقاليده، ولا يستغرب أن قام جاره الذي يتكلم بلسان آخر بنفس الشيء. والدليل على ما أقول هو ما تحفظه مرآة روح الشعب، أعني نصوص الأغاني الشعبية ذاتها. فلا نجد فيها أفكاراً تعادي الأقوام الأجنبية. ولربما وجدنا أبياتاً تسخر من الأجنبي، لكنها لا تعني أكثر من نصوص تلك الأغاني الشعبية التي يسخر فيها شعب قرية ما من نواقص قسِّه أو نواقصه هو إن السلام يسود بين الفلاحين، والكراهية الموجهة الى الأعراق الأخرى لا يثيرها غير الحاكمين".