ثائر صالح
أرجو ألا تأخذكم أفكاركم بعيداً عند قراءة هذا العنوان. فهو يشير الى عنوان عمل من أعمال باخ الجميلة والمهمة في نفس الوقت:
فنطازيا ملونة وفوغا، أو حسب التعبير الأصلي فنطازيا كروماتية وفوغا في ره الصغير، عمل رقم 903 حسب تصنيف أعمال باخ المكتوب لأداة المفاتيح بحسب التقليد الألماني، ولا يعرف وقت تأليف هذا العمل بالضبط، لكن من المحتمل أن يكون من أعماله المكتوبة في كوتن بين 1717 – 1723، لا توجد نسخة "أصلية" لهذا العمل بل عدد كبير نسبياً من النسخ التي تختلف بعض المواقع فيها عن بعضها الآخر هنا وهناك، نسخ بعضها تلاميذ باخ مثل يوهان توبياس كربس ويوهان فريدريش آغريكولا، ربما كمادة تعليمية، عدد من هذه النسخ كانت موجودة في بيت باخ نفسه. تحتفظ مكتبة الدوقة آنّا أماليا في فايمار، ومكتبة الدولة في برلين بعدد من النسخ، أهمها تلك التي يعتبرها المؤرخون أكثر النسخ دقة وأمانة استنسخها آغريكولا ربما بين 1738 - 1740، ومن المحتمل أنها استنسخت تحت إشراف باخ نفسه، هناك نسخ مؤرخة بتواريخ لاحقة والكثير منها مستقلة بعضها عن البعض الآخر، أي أنها ليست مستنسخة من مخطوطة واحدة، ما يدل على شعبية العمل وانتشاره.
الفنطازيا الكروماتية هو شكل موسيقي حر ظهر في القرن السادس عشر، يتنقل بين الكوردات بشكل كروماتي (كلمة لاتينية تعني ملون كناية عن استعمال نغمات خارج السلم المستعمل في العمل)، ويستند على كوردات المقام الدوري (وهو واحد من المقامات وأول الألحان الثمانية في التراث الموسيقي البيزنطي ويقابل مقام البيات – العشاق في المقامات العربية)، لكن المقام الدوري فقد أبعاده الأصلية فيما بعد وأصبح عبارة عن سلسلة المفاتيح البيضاء على البيانو من نغمة ره (دوكاه) حتى ره التالية (كردانية) فقد عدلت النغمة الثانية فيه وهي سيكاه الى نغمة مي، ارتبط هذا الشكل لاحقاً بسلم ره الصغير حتى بعد تطور الموسيقى الأوروبية المبنية على السلالم وترك المقامات البيزنطية المبنية على أساس الجنس (مثل أجناس المقامات العربية) وفقدان ما يقابل نغمة السيكاه من جنس المقام الدوري.
وفي مقابل هذا الشكل الحر والكروماتي الذي يتميز بالزخارف الثرية يأتي الجزء الثاني من العمل بشكل الفوغا، وهو شكل صارم في قوانينه يتلخص جوهره في إعادة اللحن بعد فترة لكن بعد تصويره في درجة أخرى مع استمرار اللحن الأول بالتوازي، ثم يدخل نفس اللحن مرة ثالثة من درجة جديدة ويسير بالتزامن مع اللحنين وهكذا، وهذا نوع من أنواع تطبيق القوانين الجمالية التي تسعى إلى الوصول الى توازن بين مختلف أجزاء العمل الفني، فالحركة السريعة لابد من معادلتها بحركة بطيئة، وعندما يرتفع الصوت لابد من معادلته بالصوت الخافت، إذ من غير الممكن تأليف سيمفونية بحركات سريعة أو بطيئة فقط، فهذا يثير في السامع شعورا بالنقص أو حتى النفور.