TOP

جريدة المدى > عام > كتابات في النسوية: نزيلات هاديس..محاولة لتأكيد الحال | القسم الثاني |

كتابات في النسوية: نزيلات هاديس..محاولة لتأكيد الحال | القسم الثاني |

نشر في: 1 مايو, 2021: 09:59 م

ياسين طه حافظ

فهل نعتبر هذه الكتابات "الأنثوية" مثلومة النهايات؟ بعض التمرد؟ بداياته؟ الجواب، نعم : هي شرر من حطب مرطوب متكدس.

وبالنسبة لشاعرتنا، تدرك جيداً أنها تحمل إرثاً معادياً وأنه صعب التزحزح وأنها نصف راغبة في التخلص منه. وهذا إشكال موغل في شرقيته! :

2

"إن هاديس في دماغ امرأة"!

إقرار واضح بالحال وإقرار بمسؤوليتها إذ تشارك "الخارج" في الوقوف ضد روحها. هي انموذج من المعاناة الفردية على هامش الحركة النسوية لا إسهام مباشر فيها، نحن في المنطق الثوري لا نكتفي بهذا، نلح على تجاوزه، على الخروج عن الطوق، نريد أن "يأبق" العبد وان يكسر النافذة السجين.

تشخيص آخر :

"يا لقلة الهواء في مدينتي

وحين يلعب العجائز الدومينو

يشعرون بالاختناق أيضاً!".

نزيلات هاديس ص72

هذا بعض من ركود أوسع، من محاولات بائسة لإنقاذ النفس.

أقول أيضاً : في متابعة الحس الأنثوي أو رصد الصيحات والكشف في الكتابة النسوية، لا يعنينا كثيراً ثراء العبارة ولا اهتمامنا الأول بجمالية الأسلوب قدر ما يعنينا ويهمنا درجة ونوع الاحتجاج وزاوية رصد الإعاقة والاستلاب. يعنينا اعلان ما غيرها ساكتات عنه، أو صاغرات له.

" شماتة العماء، امتداد القسوة،

البقع الصفراء التي تتركها الأشباح،

تخيفني. كلما تأملتها،

وجدتها مسترخية ومنتصرة ومتسعة كالأموات.

صنوف العداء واضحة، يقابلها النظر الذي لا يعقبه فعل. ليس غير خائفة و "تتأمل" .. أما "منتصرة ومسترخية مطمئنة"، فشعرية. لكن ليس الآن فرط مرادفات وتوالي نعوت. واحدة من الثلاث تكفي! تعلمي الإيجاز! الحاجة الآن للمفردة الضاربة، للمباشرة الكاشفة:

مكان مغلق

لافتات مطموسة،

وبائعة الخضار واجمة

والخضار تالف يشاركها الحرمان ...

نزيلات هاديس ص22

يذكرني هذا المقطع بقصيدتي "بائعة البصل" المهم أنها معايشة للمشكلة، أنه نضال يُفْتَتَح بهذه التكملة التي افرحتني :

البضائع نحن،

لفرط خفتها ورخصها

ترمى عندما يتعطل القارب"

نزيلات هادس

ص96

هل يشفع للكاتبة، وبالرغم من كل ما استطاعت أن تشير له أو تنوه بكراهته، إقرارها بانها لم تتجه إلى شفاء تشتهيه؟ أم أنها لم تتجه لمسرات تريدها؟ وهنا تكون قد تخلينا عن الموضوع بكامله، واللامبالاة واضحة؟ السياق يستبعد هذا التنصل أو الانشغال عنه ولكنه الانكسار بإزاء العارضة.

المتمرد يصيح في "عماء زنزانته" لا أحد يسمعه. وإعلان المعاناة بعض التمرد أو بعض الكشف. ولا يخلو هذا من إيجاب. ومما يشفع لها ايضاً أو يعطيها بعض العزاء أن هي ليست وحدها في الحرج الصعب. فالرجال والشارع والمدينة وأنظمة الدولة ارتضت أو صمتت على مضض، مثلما الدولة لا تريد أن تتقدم في هذا اكثر لكي لا تربك منظومتها الحاكمة، رموزاً وقوانين، ما عدا ذلك فكل من في المجتمع له حصة ومشاركة، خضوعاً واستسلاماً وبناء مصالح، أو تسلطاً وحكماً.

والآن هل من فرصة لتطوير الرفض الصامت والتمرد بصفة تألم منه وكراهة، إلى ما هو أكثر مما يقتضيه حراك التغيير، أم القناعة بما آلت إليه الأمور؟ نحن نريد أن نغير ونريد أن تتميز الكاتبة بالموقف المضاد وتتفرد في الخروج من الطوق المقروض من قرون على جنسها. ليست الأنثوية بمفردات الستيان، المكياج، المهبل ولكنها بفعل الاحتجاج الصعب !

إشعال النار في المنزل، منزل المشردات، نزيلات هاديس، يعبِّر بقوة وبجذرية غاية في القوة عن الكبت المتفجر. فهؤلاء لا يمتلكن ملاذاً آخر ولا يأملن من احد، ولامن انفسهن، بحل. هن سجينات هنا في ظرف صعب، وهن مشردات في المدينة، ولا يعرفهن العالم، أو يعرفهن وينكر عليهن العيش كما الناس، الموضوع هنا يخرج من حدود الاجتماعي إلى الفكري – الوجودي، كما يذكرنا بـ"جين اير" لشارلوت برونتي، حيث جنت من العزلة واحرقت المنزل في غياب هيثركو وعجرفته الارستقراطية. اختيار "ابتهال" لموضوع احتراق منزل المشردات في بغداد، اختيار ذكي ودليل اهتمام وحس في القضية الأنثوية، لكنها للأسف لا نبقي الموضوع تمرداً إيجابياً أو ثورياً. قد احرقن المنزل وهن فيه، لكن هن لم يخرجن متمردات إلى الفضاء الحر. لم يشعلنه وراءهن للقضاء عليه! ثم، ها هي المؤلفة تقول :

"لا يعرفن العدم وقد صنعتُ لهن عدماً"!

إذن هي واحدة التي فعلت ذلك ولم يكن الشعور بالرفض جماعياً، وهذا هو الانكسار الثوري الذي رصدناه في الكتابة وأشرنا إليه. في كل حال هو رفض وهو كشف للحقيقة في مدينة سادرة. وهذا تماماً ما فعلته بطلة جين أير، التي جُنّت من قتامة ما حولها فأحرقت المنزل وشوهدت النار في المنطقة، ثم نقلتها الراوية إلى المدينة كلها وإلى البلاد بعد سنين إلى العالم!

هو فعل مطلوب ولكنه ليس كل الفعل. ليس كافياً بعد القول :

"غاضبة من مواعيد مفخخة

بملايين الانتظارات ...

نزيلات هاديس

ص89

هكذا هي لا تترك فرحاً على رسله ولا أملاً. تكسر الفرح ، تكسر اللون، تكسر الضوء تكدر الأشياء وتفقدها نعومتها :

"الفستان (المصنوع من) الحرير،

يلون احشائي"!

نزيلات هاديس

ص143

أظنه إيجازاً كافياً لحياة الأنثى :

"حتى احتويت خيبتي .."

وهنا يكون الكتاب قد أوصل رسالته، وإن كانت غير بهيجة. ولن تكون منصفين إذا أردنا، في مرحلة اجتماعية وثقافية، غير متكاملة وفيها زيف كثير، ومجتمع غير منسجم وغير مؤتمَن على جديد غريب، وأنظمة وقوانين لا تليق بالعصر، لن تكون متصفين إذا طلبنا من مرهفة مقطوعة إلا من وعيها وألمها، أكثر من ذلك. لكن ما دامت ارتضت كشف الحال، فليس أمامها إلا إدراك أن القضية الأنثوية صعب فصلها عن قضية المجتمع، تقدمه وتحرره، وهنا وجب العمل بنضالية أكثر وأوسع، وهذا يعني متاعب ومخاطر أكثر وأوسع، لكن، مزيداً من الاهتمام بسؤالها:

"أهذه المرأة المعلقة هنا بخيوط واهية، هي أنا؟"

أقول: نعم، أنت! وهو هذا جواب السؤال وهو هذا ما يقوله الكتاب ...

أخطر ما يفسد دراسة الأنثوية، هو أن النساء البارزات غالباً من صنع رجولي غير مؤهل للفهم وغالباً غير مكتمل انسانياً. ثمة ثلم في الجانب الأخلاقي وقصور في استيعاب النموذج الأنثوي و نادراً ما نكون النظرة صافية، وقد لا تكون ذكية، وصعب تكون غير منحازة.

يحضرني في هذا الصورة قول لـ أناييس نن تقول : "أنا لم اصف النساء أطول الوصوف لأني امرأة وانما لأنني اعرفهن معرفة أكبر، لأن معظم الشخصيات النسوية في الأدب هن من صنع رجال أحبوهن كثيراً أم كرهوهن ..."

ما كتبه الرجال عن النساء أضفى عليهن ذكورة وأخفى منهن الخصائص النسوية الخفية ولا مصدر آخر يكشف لنا المُضمر البعيد وهن يخشين الإعلان عنه. من هنا فرحنا بكاتبة تجد فرصة بين السطور لإطلاق شرارة أو توقد مصباحاً في ظلمات أمدها قرون ...

تقدم وانتشار الميديا، تطور السينما وثقافة الإخراج السنمي، ساعدا على كشف متاعب واحزان نسوية في الحياة الشرقية محروسة البوابات والنوافذ ... تجرأت نصوص معتمة ونصوص نصف مضاءة ونصوص تحاول التعمية لتكشف لا للجميع ولكن للأوساط الثقافية، وهذا أوجد ترحاباً و الترحاب يعني تشجيعا على المزيد.

ثمة حالة تمزج الذكاء بروح الاحتيال أو هو المكياج الذكي. هذا يعني استعارية تستدعي الشعر وتفسح مجالاً للصرخة أو للتعبير عن الاستياء، عن استمرار الضرر وانشغال المحيط عنه. قد يؤدي هذا حتماً إلى هم فردي لكن طبيعته وارتباطه بالمجتمع وقوانينه منحاه انتماءً سياسياً، راديكالياً إن لم يكن يسارياً. حتى في النص المحايد ايديولوجياً ! هو يساري فيما يقصد له ويتوقف من أجله وفي القوى المعادية له.

نصوص ابتهال –المعتمة- تواصل الإضاءات المتقطعة، وإن بأسلوب يتنقل استقراره فلا يترسخ فيه النزوع للخلاص، مع ذلك هو يعني تحركاً ثورياً، يعني فعلاً مغيراً وإن كان مثقلاً بسلاسله.

ليعذرني من كتبتُ عن نصوصهن، فأنا لا يعنيني "الشخصي"، أنا منشغل في موضوع اسمه الحركة النسوية، الأنثوية، وأخدم موضوعي وقضيتي الفكرية لا اخدم فنهن الكتابي ولا حتى العلاقة الثقافية أو الاجتماعية بيننا، فالرضا وعدمه، هما عن حركة خط التحرك الأنثوي لا عن أي منهن –للنقاد ان يسترضونهن أو ان بعلمية محترمة يتحدثوا عن جماليات الأدب الذي يكتبن. وهذا واجب ثقافي وفكري آخر، مهم أيضاً!

ملاحظة أخرى وأنا أقرأ كتبها : أنها لا تتحدث عن خوارق ولا عن أحداث غريبة ولكن عن آلام وأحداث شائعة تلبسها مظهراً أسطورياً. والحقيقة أني شعرت بان الكاتبة كمن تورطت في حياة لا تدري كيف تعيش فيها ببعض الزهو أو بكبرياء. ثمة إذاً حقيقة وجودية، هي محنة الإنسان، تراجيديا الذات في عالم صعب. هي لا تقدر على المواجهة ولا قادرة على التآلف مع ديمومة المواجهة غير المتوازنة. ترى الكثير وتصنع لا شيء. هي تؤلف كتباً، هذه الكتب واضحة عليها الهيمنة من عنواناتها!

هذا هو سبب كتابتي عنها. هي انموذج، مثال آخر من أمثلة بدء التفتح النسوي – بعيد ولكن مع اصداء الحركة النسوية. ربما أمِلَتْ أنها بتوالي الصور، واحدة أثر أخرى، و بتزاحم وتوالي الاستعارات يمكن أن تكشف واقعها، واقع نزيلات هاديس، وهذا طبيعي في الكتابة النسوية فللنساء طريقتهن في إنتاج المعنى بتراجيديته الصامتة .

لكن المسألة أكبر مما ترين، فهي مسألة مستوى حضاري وأنظمة حكم وقوانين، وبلا ثورية وحراك مجتمعي لن تنفع كل اشعار الكون.

أول ملاحظة، أول لافتة تومض متقطعة، أنها لا تتحدث عن نفسها مباشرة ولكنها تتخفى وراء الضمير الثالث الغائب : هن أو هي فالكلام عن:

نزيلات هاديس

وعن مائلات تحت ثقل دمعة

ونيكروفيليا (ذات) الشريط الملون

والسؤال الآن لماذا ابتدأت بـ أغنية رأسي ونتحدث عن نفسها أو عن رأسها؟ ولماذا حين ابتدأ الكشف وكبر الموضوع، تخفّتْ وراء غيرها؟ السبب أنها ابعدت الموضوع عنها فكأن تقول عن سواها، كأن تروي، و "ناقل الكفر ليس بكافر". هذا أول الحذر وسيلازمها لتتقي الصِدام. هي بإيجار تحيد قليلاً عن الكلب في الطريق..

الملاحظة الأُخرى أن كل اللغة، كل الاجتهاد النسوي في محاولة البوح، تشعرك بأن إنساناً تتوزعه الموجعات، المصادرات والإلغاء. لا مظاهر مزدهرة، لا زهو، لا قوة اندفاع في الحياة. هي، أو بطلتها، شبيهة ببطلة مارغريت دورا – في روايتها العاشق، تلك التي احست بأنها شائخة وعجوز وهي في الثامنة عشرة و "اختصرت الشباب على نحو مفاجئ وقبيح. نحن ندمر كل شيء إذا افترضنا وراء ذلك المحرض الجنسي وحده. ثمة محنة وجودية، أخلاقية، محكومة بالبوليس المجتمعي والسياسي معا!

نعم، ثمة تيار ضمن تيارات النسوية المتعددة مُتَّهم بالرغبة من التحرر الجنسي وهذا يضادده، بل يعاديه التيار الكاثوليكي، لكن علينا أن نفهم ما وراء اللافتة، أعني ما يتعلق بالجنس والاجهاض وحريات الذات النسوية الأخرى. على العكس ثمة صوت ضمن ذلك التيار المتهم، وفي تظاهرة في روما السبعينيات يعلن أن ليس هذا هو ما يشغلنا ، وهذا ممكن بوسائل أخرى، وكان الكشف شنيعاً:

بالأصبع بالأصبع

اللذة مضمونة!

شناعة هذا الهتاف لتقابل شناعة الاتهام و لرفض اختزال القضية النسوية، بتفرعاتها وتعقيداتها، بالحاجة الجنسية!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

جلسة "القوانين الجدلية" تحت مطرقة الاتحادية.. نواب "غاضبون": لم يكن هناك تصويت!

القانونية النيابية تكشف عن الفئات غير مشمولة بتعديل قانون العفو العام

نيمار يطلب الرحيل عن الهلال السعودي

إنهاء تكليف رئيس هيئة الكمارك (وثيقة)

الخنجر: سنعيد نازحي جرف الصخر والعوجة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram