د. نادية هناوي
عُني الباحثون بانتقاء منهجيات خاصة في تأويل الأساطير وتفسيرها سواء تلك التي تضمنتها الملاحم الشعرية أو التي تناقلتها الحكايات القديمة أو التي ورد بعضٌ من تصوراتها في النصوص الدينية ،
وتتنوع كيفيات التأويل والتفسير تبعاً لطبيعة المنهج المعتمد وفهم الباحث واجتهاده، فمن المناهج ما يتطلب العمل به الاستعانة بأسانيد تاريخية، ومنها ما يتطلب التزود بمفاهيم نفسانية ، ومنها ما يعرض المسببات العلمية التي تنتهي بنتائج منطقية بطريقة بنائية لا تتعدى النص وممكناته الفوقية والتحتية، ومنها ما يرتبط بفهم الباحث وميوله الخاصة التي منها تتشكل طبيعة المعالجة ومحصلاتها.
ومن التأويلات التي استعانت بالمنهج الميثولوجي المعزز بأسانيد تاريخية مدعمة بدلائل جغرافية ولغوية ما قام به المفكر علي الشوك في كتابه( الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة) وفيه حاول التدليل على" أن كثيرا من المعتقدات الإسرائيلية لها جذور سومرية وبابلية وكنعانية"ص9 وقد تتبع بعض تلك المعتقدات ووجد أن لها صلة وثقى بالأساطير وتعالقها مع الأديان. وهو ما يجعل كتابه إضافة نوعية إلى ما كُتب عن الأساطير السومرية والبابلية والاكدية والكنعانية.
ولقد أوصلته مقاربته بين التوراة وملحمة جلجامش إلى كثير من الأفكار الجديدة، فمثلاً أن أعمال موسى الخارقة ترتقي إلى أفعال الآلهة، وأن يشوع يومئ للشمس بالكف عن المغيب ليلة بأكملها لكي يقضي على آخر نفس حية في بلد جبعون الكنعانية قبل أن يحل فيها الظلام، وأن شمشون وبطولاته الخارقة التي تذكر بمآثر جلجامش وهرقل وإيليا الذي ترقى أعماله إلى السحر ليطير أخيرا في مركبة نارية إلى السماء، ليس ذلك حسب، بل توصل أيضاً إلى أن هناك ألفاظاً في اللغة العبرية لها أصل في اللغة الأكدية مثل كلمة نبي أي داعية في العبرية ترجع إلى نابو الأكدية وكلمة كفارة هي كبور بالعبرية وترجع إلى كبارو في الأكدية.. وغير ذلك كثير.
وقد عزا الباحث علي الشوك أسباب هذا التعالق اللغوي والتأثر الديني إلى السبي البابلي لليهود بدليل عثور الباحثين في فلسطين على ألواح من ملحمة جلجامش تروي قصة الطوفان.
ومن التأويلات التي اعتمدت منهجية سيكولوجية في تفسير العلاقات السلوكية بين أبطال الأساطير والملاحم والديانات ما قدمته سوزان أكرمان Susan Ackermanمن تفسيرات آيروسية حول علاقة جلجامش بانكيدو في الملحمة السومرية، وعلاقة داود بجوناثان في الكتاب المقدس، مؤكدة أنها كانت علاقات آيروسية أي شاذة، مفيدة في هذا كله من بعض مفاهيم علم النفس التحليلي.
وغايتها التدليل على وجود عمق تاريخي لظاهرة المثلية يدعم توجهات منظمات تسعى إلى الاعتراف بأعضائها الشاذين والشاذات وإضفاء الشرعية على ما ينادون به من مطالب.
وأكرمان باحثة أميركية مواليد 1958 متخصصة في الأديان ودراسات المرأة والجندر، ولها مؤلفات في قضايا الكتاب المقدس والحضارات القديمة، ومنها كتابها (تحت كل شجرة خضراء) 1992 وكتاب (محاربة وراقصة ومغوية وملكة: النساء في إسرائيل التوراتية) 1998 وكتاب( عندما يحب الأبطال: غموض الإيروس في قصتي جلجامش وداود:
الجنس والنظرية والدين، مطبعة جامعة كولومبيا، ط1
، 2005.When Heroes Love: The Ambiguity of Eros in the Stories of Gilgamesh and David : Gender, Theory, and Religion)
وسنقف عند هذا الكتاب الأخير، وفيه تبنت أكرمان منهجية سيكولوجية بانت الغاية منها من التمهيد الذي فيه سردت قصة بطاقة الدعوة التي وصلتها من أحد طلابها السابقين وهو عضو في منظمة تدافع عن مطالب الشاذين داخل الكلية نفسها التي تعمل فيها، ودعا الباحثة التوراتية إلى المشاركة، فوضعت برنامجاً غايته ريعية لجمع التبرعات الجامعية للمنظمة. ومما تضمنه برنامجها تقديم خدمات من بينها البحث في تاريخ نشوء الآيروسية داخل المجتمع اليهودي والمسيحي قديماً وفي العصر الحديث أيضاً .
وينقسم هذا الكتاب إلى قسمين، وقفت أكرمان في القسم الأول منه عند ملحمة جلجامش مؤولة العلاقة بين جلجامش وأنكيدو بأنها آيروسية ثم انتقلت في القسم الثاني إلى التوراة برواية صموئيل لتؤكد الأمر نفسه في علاقة داود بجوناثان.
وما أشكل عليها في القسمين معا هو ما وجدته في المجتمع الأوروأميركي من حديث عن الآيروسية الجنسية وكأنها غير موجودة لا في المجتمع التوراتي ولا في المجتمعات الأخرى، وتعجبت كيف أن الخطاب الاوروأميركي ظل إلى أواخر القرن التاسع عشر والعشرين ينظر إلى الآيروسية كشذوذ جنسي يتمظهر بهوية جندرية تخالف الطبيعة وغير مقبولة في البنية المجتمعية العامة ولذلك كان يتطلب علاجاً وتقويماً اجتماعيين.
وبتتبعها بدايات الآيروسية وجدت أن المؤرخ البريطاني ليفري ووكس هو أول من أكد أن المثلية ظاهرة موجودة على مر التاريخ حتى لا وجود لشعب أو طبقة أو مجتمع من المجتمعات لا يعرف المثلية، بيد أن هناك تفاوتاً في المشاعر وردود الأفعال تجاهها ما بين النظر إلى هذه العلاقات الجنسية بلا مبالاة أو التعامل معها بالرفض أو العقاب. أما الاصطلاح على هذا السلوك الجنسي الشاذ (المثلية الجنسية) homosexuality فيعود إلى تشارلز جيلبرت الذي كان أول من أطلقها عام 1891 .
وإذا كانت أكرمان ترى أن استخدام المصطلح في القرن التاسع عشر لا يعني أن (المثلية) قبله لم تكن موجودة، بل هي قديمة، فإننا نقول إن وجودها لا يعني شرعنتها أو مقبوليتها فهي مرفوضة دينيا واجتماعيا وفي مقدمة الأديان ديننا الحنيف الذي نصت آياته على عد هذه الممارسة المنحرفة فاحشة نكراء وبينت العقاب الصارم الذي نزل بممارسيها الشاذين من الأقوام البائدة، وهو ما لم تتطرق إليه أكرمان لا من قريب ولا بعيد أما جهلاً أو تجاهلاً.
ورأت أكرمان أنه وبغض النظر عن الحداثة النسبية للمصطلح فإن من الممكن الحديث عما وصفته بحقائق جوهرية وطبيعية حول دور الجنس داخل مجتمعات الشرق الأدنى القديم والمجتمع التوراتي بشكل خاص.
ولا يخفى أنّ هناك عدة دارسين اهتموا بكشف العلاقة بين أبطال الملحمة كما أن بعض مفسري الكتاب المقدس كانوا قد تساءلوا عن علاقة ديفيد بجوناثان و"هل كانا شاذين فعلاً ؟" وممن أشارت إليهم اكرمان عالم الآشوريات نيسينين (1998) الذي سبقها في تتبع السلوك الجنسي في الأساطير لكن اكرمان وجهت اهتمامها السيكولوجي نحو جانب محدد يتمثل في العلاقة الحميمية واللغة الجنسية والسلوك الايروسي الذي يدلل على وجود أمر غامض بين جلجامش وانكيدو وداود وجوناثان.
وما يهمنا من الكتاب هو قسمه الأول المتعلق بجلجامش وعلاقته بانكيدو وما رأته اكرمان من أدلة تثبت وجود علاقة شاذة بين البطلين، منها حلم جلجامش بالنيازك والفؤوس ثم المباراة المهولة بين البطلين التي أسفرت عن حب أبدي انتهى بحداد جلجامش الطويل على موت انكيدو، وأن جلجامش ما رفض محاولات عشتار الاغوائية إلا لأنه فضل رفقة الذكور ولهذا ارتبط ارتباطًا وثيقًا بانكيدو متخذا منه شريكة (لكي يأتي موت هذا الأخير على هذا النحو صدمة للشريك الباقي على قيد الحياة فتتولد أسئلة المغامرة ) وهذا زعم خاطئ سيأتي تفنيدنا له لاحقا.
وما حاولت أكرمان تأكيده هو أنّ العلاقة الجنسية بين جلجامش وأنكيدو كانت شاذة لا من منطلق سلبي يراها شذوذاً، بل من منظار يراها سوية وطبيعية. وعززت قراءتها هذه بالاتي:
أولاً/ أن اللغة التي وظفت في الملحمة كانت لغة إيروسية تدلل على أن هناك غموضاً أدى إلى المساواة بين جلجامش وأنكيدو.
ثانياً/ النصوص المثيرة التي فيها صور جنسية صريحة تخفي وراءها بعض الغموض مؤشرة على وجود لغة يتأنث فيها أنكيدو على وفق تراتبية فيها جلجامش هو الرئيس وأنكيدو هو الأدنى.
إن ما افترضته أكرمان من وجود علاقات ايروسية شاذة وغير سوية اوقعها في مأزق، أعني أن تدليلها على إيجابية العلاقات الشاذة جعل كتابها يحفل بتناقضات كثيرة بسبب تعارض هذا التفسير مع معايير المجتمع الرافديني المتعلقة بطقوس الميلاد والزواج والموت والتي هي في العموم لا تختلف عن قوانين الشرق الأدنى القديمة التي كانت تحظر العلاقات الجنسية الشاذة فلم تكن مقبولة لا في المجتمعات الشرقية ولا في مجتمع ما بين النهرين.
وفيها لا يكون البطل متفرداً إلا بصفات لا يشاركه فيها ثان، وفي مقدمة تلك الصفات الصفة الإلوهية التي أرادت الملحمة توصيف جلجامش بها وبسببها انتهى الأمر به رجلاً حكيماً فكر في الوجود فرأى بعقله ما لم يره بعينيه..