ناجح المعموري
ارتبطت فلسفة سقراط بالأفراد الموجودين في الشوارع والمطاعم والمقاهي ، يلتقي معهم صباح كل يوم ويستمع لهم ويلتقط ما هو جديد من أسئلة المعرفة بما ينشغل به الأفراد
وهذا ما قام به سارتر وسيمون دي بوفوار لحظة دخولهما للمقهى يومياً ويتصاعد بينهم الحوار والجدل والنقاش الذي لا يتوقف وقد سجلت سيمون دي بوفوار : " كنت أشعر أن المقهى أصبح جزءاً من العائلة " ومعروف بأن ثورة الطلبة عام 1968التي قادها الشباب ، كانت المقاهي مركزاً للقيادة التي تكونت من المثقفين والفلاسفة والطلبة ويبدو بأن المقهى منذ زمن الإغريق وحتى ثورة الطلبة هي الفضاء الذي يقود للتغيير مثلما كانت وظلت مجالاً هو جوهر الإثارة والأسئلة والجدل .
فلسفة سقراط هي أن يتعلم الفرد معرفة مَن هو ومَن يكون ولابد عليه من إدراك الحدود التي يعيش وسطها ، لذا اهتم تاريخ الفلسفة في العالم بما أسسه سقراط ومحاولاته تأشير مشاكل الفلسفة وسعيها التوجّه الى الكائن ، وما يحيط به من إشكالات وما يبتكر من حلول . " إن الأساس في فلسفة سقراط هو معرفة الإنسان لنفسه وهدف الفلسفة كما يقول سقراط هي معرفة طبيعة الإنسان باعتباره المصدر الأول الرئيس ــ كما يقول سقراط ــ في معرفة طبيعة الانسان ، المصدر الأول لأعماله وسلوكه بطريقته في العيش والتفكير ، وإن مطلق المعرفة لا يتحقق إلا من خلال معرفة النفس ، وإن الفيلسوف الحق هو من يمارس فلسفة الحياة ، وأن يكون نهجه الحقيقي هو الحوار والمحادثة الحية الذي هو بؤرة الفلسفة التي لابد وأن تفضي لتداخل الأسئلة مع بعضها واجباتها ، وكلما كان الجدل ، التوافق والتضاد ظاهراً وقوياً ، كلما كانت الفلسفة أكثر تأثيراً بحضورها ، وهذا هو الذي جعل سقراط مكروهاً ومتهماً بالفساد وتدمير عقول الشباب . واستمر سقراط معنياً بالإصلاح وترميم نفوس الشباب ، لأنه يعتقد ضرورة تصويب الأخطاء التي يستمع لها في الشارع والأماكن العامة ، لأن الإنسان إذا كان على خطأ يجب تنبيهه الى الطريق الصحيح ومعرفة الصواب ، لأن الدور المهم ، الموكول للكائن هو أن يكتشف حقيقة وجوده وعلاقة هذا الوجود بالأخرين ، وتأثير كل منهما على الآخر ، يقول سقراط ، إنه يتجول في الاسواق ويجادل ، لأنه طالما اعتقد أن الانسان يجب أن يعرف لماذا يعيش وكيف يعيش ؟ وصرّح للقضاة بأن الجدل لم يبدأ منه أبداً ، بل الفرد هو المتحاور لحظة طرح الأسئلة وما عليه إلا الإجابة التي تفتح نوافذ للتعمق مكشوفة ثقافياً ، دائماً ما تضع الشاب وجهاً لوجه مع سقراط ويحوز منه على جواهر العقل الإنساني المتمثل دوماً ، تحوّل السؤال الذي يضع سقراط وسط جوهر فلسفته التي اعتبرها جوهراً إنسانياً ونشاطاً أساسياً وتعاونياً ، وهي موضوع محتشد بالاسئلة والمناقشات الحتميّة التي تعزز التبادل للرأي وتضع الإنسان أمام معرفة الحقائق ، وهذا هو الذي جعل أفلاطون مولعاً بتقديم أفكار أستاذه سقراط في صورة محاورات ، لأن الحوار هو مهنته العقلية والإلحاح على السؤال هو العصب المركزي في الحياة . وستظل مقولة سقراط حاضرة ومدوية للأبد " أفضل الموت حراً ، على أن أعيش عبداً .
وتضيء هذه المقولة أهم توصلات سقراط التي تحوّلت الى درس للشباب لأن هذا يقود لمقاومة السلطة والعمل من أجل الديمقراطية والسلام .
كتاب الأستاذ علي حسين " أحفاد سقراط " مهم للغاية ، لأن آلية علي حسين تعتمد التداخل والتشابك بين الشخصيات الفلسفية وتعالق الحوارات مع بعضها الآخر وهذا جوهر ما ركزت عليه بدايات الفلسفية منذ لحظة سقراط ، وكأنه وضع أساس المواجهة مع الكائن ، ليس كي يستمع ، بل من أجل أن يتحاور ويستجمع الأجوبة ، السؤال هو المركز الحيوي في فلسفة سقراط وعموم الدرس الفلسفي لأن اعتياد الشاب على المحاورة ، تجعل منه طاقة قوية وخلاقة تفضي به لتعميم الإصلاح ، والدعوة لتبني المواقف النقدية.
مثال أهمية التداخل ما حصل بين أرسطو وأفلاطون وهذا ينطوي على درس مهم له وظيفة تعليمية ، لأن افلاطون فيلسوف وأستاذ له مهمة تعليمية استفاد منها أرسطو ومثل هذا الفعل تحفيزي وتشجيعي على المغامرة أو المجازفة بالخروج عن السياق المتمركز ، لذا قال أرسطو قولته المعروفة : أحبّ أفلاطون ، ولكنني أفضل الحقيقة أكثر " وهذا الرأي امتداد واضح لما قاله أرسطو حول حيوية أن يكون للإنسان مواهب عديدة ويجب أن يعتني بها ويطوّرها بشكل أفضل ، حتى يجعل منها طاقة خلاقة تعيد ترميم الحياة وبناء العلاقات الانسانية بالآلية الموظفة بالجدل الذي لا يتوقف على الاطلاق والتعطّل هو المكروه منذ سقوط سقراط وأفلاطون وأرسطو ، لابد من تدمير الخطأ وسحق التفاهات ، العالم لا يتشكل من جزئيات وسخة . وأجد ضرورة مهمة للغاية هي استعادة مقولة أرسطو التي كانت وظلت فناراً يهتدى به العقل وينير الدرب للشباب والجماعات ، لأن مهمة الفلسفة كما قال أرسطو : هي القوة القادرة على تدمير وبناء الجديد باعتبارها " العلم الذي لا يوجد إلا من أجل ذاته " .
تعلم أرسطو الجوهري الذي دعا له كل من سقراط وأفلاطون وأعني به السؤال المركزي : كيف يجب علينا أن نعيش ؟ هذا ما طرحه سقراط وأفلاطون وظل خاضعاً للحراك أو السيرورة المنطقية . ولأن أرسطو ذكي أدرك كيف يوظف ما قاله الـ (ما قبل) ، لذا ابتكر حكمته الآدمية وهذا الجواب حفّز لوك لإنجاز كتابه " مفارقات السعادة " وذهب لقول المركز مؤكداً على أن السعادة وحضورها تعتمد على ذكائنا واجتهادنا الذاتي على معرفة العالم من حولنا ، ومن تأثيرات فلسفة لوك حول السعادة ما قاله برغسون : تبرز البهجة أن الحياة كانت ناجحة ، وإنها انتشرت وانتصرت ، كل بهجة لها انتصارية ، هي كل لحظة تكون فيها البهجة يكون فيها الخلق كلما كان الخلق غنياً تكون البهجة عميقة .
هذا هو الذكاء الدقيق والعميق الذي يتمتع به الباحث علي حسين الناجح في توليد شبكة من الآراء والمقولات وكأنها حبات المسبحة تضفي للموضوعة الجوهرية التي ابتدأ بها كتابه " أحفاد سقراط " حيوية ومرونة وقوة ، تكمن فيها طاقة ثقافية ، تمنح العقل مهارة اختيار أهم الأسئلة كي يتحول الإنسان الى محاور أمام سقراط أو أرسطو أو أفلاطون ... هذه السيرورة الفلسفية التي كان وظل الكائن هو جوهرها انفتحت لاختيار السعادة ، وتمركُز البهجة التي تمنح الحياة كل الطاقات البارزة فيها وتقود الإنسان للتمتع بالحياة وتفاصيلها المتنوعة ، المعنية ، باللذائذ والسعادات هذه هي مهارة الباحث علي حسين في منهجه الثقافي الذي سيكون تأثيره بين الشباب فاعلاً ، كأنه استعاد وظيفة سقراط وأرسطو وأفلاطون ... إنها تجربة ثقافية مهمة للغاية وما صدر من كتبه بحاجة الى تعميم أكثر وسأنتهي من مقالتي بسؤال سقراطي : إين وظائف أقسام الفلسفة وأساتذتها في الجامعات ؟