TOP

جريدة المدى > عام > اللغة المحكية في النص الشعري الحديث..نص (سعدي الحلي في جنائنه) نموذجاً

اللغة المحكية في النص الشعري الحديث..نص (سعدي الحلي في جنائنه) نموذجاً

نشر في: 24 مايو, 2021: 11:00 م

مالك مسلماوي

ما الذي يدفع الأديب المعاصر الى النزول الى اللغة المحكية (العامية) في نص مكتوب بلغة فصحيحة ؟ وهل هي تجربة خاصة ام شائعة ؟

و ما صداها على المتلقي المعاصر؟ للجواب على ذلك هناك جملة من الدوافع – حسب ما ارى – تقف وراء هذه الظاهرة التي تشكل حضورا ملموسا في النص الادبي الحديث شعرا وسردا ..مع وجود الفارق بين طبيعة الجنسين .. اذ ان السرد اكثر احتكاكا بالحدث في تمثل الواقع ..

لذا يبدو الأمر واضحا في القصة والرواية واليوميات والمسرح ..الخ. وعليه لا غرابة في كون السرد يجد مسوغا واقعيا لنقل الفعالية الموضوعية وحوار الشخصيات بأمانة لكشف الواقع امام المتلقي بصورة مباشرة بلغته لا بلغة الكاتب . و لقد مارس اغلب كتاب السرد ذلك , وبعضهم طوع اللغة الفصيحة و جعلها في منطقة وسطى بين الفصيحة والمحلية الدارجة .

بعد ما تقدم نجد السؤال المطروح هنا ينصب بالدرجة الاولى على النص الشعري الحديث والذي تمثله قصيدة النثر و قصيدة التفعيلة قبلها .. مستبعدا القصيدة الكلاسيكية الساعية الى فرض وجودها حاضرا و هي تخوض صراعا دائما من اجل البقاء .. فالقصيدة الأم في الغالب (تأنف) من الاستعانة باللسان الشعبي و تعده ضعفا في قدرتها على الحفاظ على اللغة الفصحى النقية الخالصة الى درجة القداسة , و كأنها تحتجّ بانها لغة النص المقدس ف(حرام) عليها ان تخون الأمانة , بل بالعكس تسعى الى تكريس اللغة الفصحى وفق قواعد النحو والصرف و العلوم البلاغية الموروثة.. لذا نجد استثناءات نادرة لجأ فيها شاعر العمود الى المفردة الشعبية.

في الحداثة وما تلاها تجاوز النص الشعري تلك الاعراف والمقولات , فاللغة لم تعد مقصودة لذاتها وانما باتت وسيلة للوصول الى دلالاتها بأي ثمن كان .. و هذا التمرد تزامن مع ظهور الحركة (الرومانسية) الذي شكلت ثورة على المذهب الكلاسيكي المتزمت " .. لقد بدأت الرومانسية كحركة احتجاج من جانب البورجوازية الصغيرة على (كلاسيكية) النبلاء, على القواعد والانماط, على الشكل الارستقراطي و على المضمون الذي استبعدت منه جميع قضايا "العامة" من الناس. كان هؤلاء الساخطون الرومانسيون لا يرون ان هناك موضوعات ممتازة , فكل شيء ممكن ان يكون موضوعا للفن" (*)

و بتحليل الظاهرة نرشح جملة مسوغات لانفتاح النص على اللغة المحكية (لغة الشارع) , منها الوصول الى قاع المجتمع و تحريك عواطفه واحاسيسه لكسب استجابة الجمهور الواسع الذي يشكل عماد المجتمعات العربية بدرجات ثقافاتها المتفاوتة و النزول الى ادنى درجات الوعي في السلّم الثقافي.. و هذا تعبير عن الخروج من الثقافة النخبوية التي كرستها النظرة الفوقية , و التوجه الى الطبقات المسحوقة لأنها الوسط الذي تكمن فيه الارادة و الرغبة في التغيير و التطلع الى حياة جديدة تنسجم مع التحولات التي يشهدها العالم الحر اذ تُسخّر فيه الفنون قاطبة لخدمة الشعوب.. و " لا تتوقف اهمية الفن على الفن الرفيع و حسب , انما على الفن الشعبي ايضا الذي له الاثر الأوسع والمباشر في ضبط ايقاع الحياة اليومية و التعبير عن روح الجماعة والفرد و مدّهما بالحيوية و التفاؤل , وتجاوز الفشل والازمات والمآسي ... و قد لاحظنا ذلك في ممارسات الشعوب البدائية و المتطورة على حد سواء , فمهما تغير شكل الحياة يبقى الشعب محتفظا بما ابتدعه من انماط و ممارسات فنية يحرص عليها كاستجابة روحية و كأجوبة لما يمور في ذاته من اسئلة و قلق مصيري.. من اجل ذلك نجد السحر و الشعر والغناء والرقص والموسيقى و البطولة في الحكايات والاساطير و الخرافة زادا للروح الجمعية و سببا في توكيدها و توهجها "(**). و قد استفاد الشاعر من كل ذلك للوصول الى غاياته في تحريك العواطف و الأحاسيس و ايقاظ الوعي الجمعي من حالة الخمول .

لقد رأينا بوادر هذه الظاهرة بعد (الانقلاب الاول) الذي سمّي بثورة الشعر الحر(التفعيلة) في نهاية النصف الاول من القرن العشرين والتي اطلقها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة في العراق , و قارئ السياب سيلاحظ احتواء كثير من قصائده على المفردات و الأهازيج الشعبية وتبعه في ذلك شعراء كثر توكيدا للعلاقة الحميمة بين الشاعر و جمهوره واحساسه بنبض الشاعر وتبنيه لقضاياه التاريخية والحياتية اليومية.

و نتيجة لما تمتاز به اللهجة الشعبية التي وصفت ب(اللغة المحكية او العامية) من الاختزال و المرونة و الصدق , قد يلجأ اليها الشاعر كونها قادرة على توصيل ما تعجز عنه اللغة الفصيحة للهوة الفاصلة بين طبيعة الخطاب وطبيعة التلقي , فاللغة الفصيحة يقلّ تأثيرها كلما اتسعت المساحة الديمغرافية بينما يسعى معظم الشعراء الى الانتشار الاوسع وانتظار ردّات الفعل الايجابية من اوسع المساحات.

و من المسوغات الاخرى في اللجوء الى اللهجة المحلية هو توظيف (البلاغة الشعبية) من الاقوال والامثال و الطرائف التي من شأنها تدعيم فنية النص , و شحنه بالمتعة والاثارة .. وهذا ما فعله الشاعر موفق محمد الذي امتازت قصيدته بانها خليط من اللسانين لذا حظيت قصيدته بأكبر قبول جماهيري وسبب من اسباب شهرته الواسعة في الاوساط الاعلامية والشعبية .. وتأكيدا لذلك يفتتح ديوانه الأخير(سعدي الحلي... في جنائنه)(***) بمقطع من اغنية لسعدي الحلي المطرب المعروف والمحبوب على مستوى العراق ودول الجوار:

(حاير ممتحن شرتكب يا راي.

فكري كله يمك ) / ص 5

و في نص اخر يعمد الى اقتباس ما يدور على السنة الامهات العراقيات :

"يمه عود من توصل الحرب خلي عينك

بعين الله

ودير بالك على ولد الجيران..

فأشرقت في نخيلها رطبا

واوصت قمرها الا يفطم رضيعا من

حليبه .." ص22 من النص نفسه

ففي الاقتباس الاول لجأ الى الشعر الشعبي المغنى , وفي الثاني اقتبس وصية ام لولدها.. وقد لاحظنا السطوع البلاغي في الاقتباسين . و هكذا لا يكاد نص لموفق محمد يخلو من مفردة شعبية حتى بات سمة اسلوبية شاخصة في تجربة موفق الشعرية .. و بالنتيجة فالخطاب يستهدف الهم الاجتماعي بكل تفصيلاته مركزا على الجانب السياسي لان الشاعر يحمّل الراعي مسؤولية الفشل والفساد والخراب في الرعية وهي نظرة يدعمها الواقع قبل الطروحات البحثية في القضية الاجتماعية والسياسية..

يرى موفق محمد ان المفردة الشعبية تمتلك من طاقة التأثير ما لا تصله اللغة الفصيحة احيانا , مع كونه مختصا في اللغة العربية , فهو لا يتردد عن التضحية باللفظة الفصيحة في سبيل الفكرة التي يريد ايصالها الى المتلقي , فهو يهدف الى اثارة انفعال المتلقي اولا من اجل الوصول الى منطقة وعيه لاحقا بعد ان يستحوذ على اصغائه واثارة اهتمامه , لذا يمكن عد موفق محمد شاعرا شعبيا تحريضيا , و لا يهم الشاعر ان هذه الشعبية تدور في المحلية الضيقة. المهم هنا ان يعبر الشاعر بصدق عما في ذاته وان يوصل ما يحس به الى الانسان في هذا الوطن العجيب .. فموفق محمد يعشّق بين اللهجة واللغة , و بين ما قاله هو وما قاله الشاعر وغناه سعدي , وبين ما هو شائع من الكلام المأثور ومن الزجل على السنة الناس :

"عجز يرسم وحشتي مالفني

ومن سمي العجارب مالفني

شعجب لسه المكابر مالفنّي

أموت ولا كبر يرهم عليّه " ص51

تبرهن نصوص موفق محمد دائما على ان الشعر اداة كشف وتغيير , و هذه الأداة لا بد من كونها قادرة على التأثير في المتلقي , وهذا التأثير ينماز بجملة خصائص تجعل منه في اعلى درجاته وجدانيا وروحيا وعقليا .. فهو تأثير شامل , لكن المهم في شعر موفق انه يسهم في خلق الذائقة وتمرينها على الاستجابة السريعة الفاعلة .. فالنص يعتمد التشويق والدراما والسخرية والتناص , وكل ذلك يتمحور حول غاية الشعر السامية :

" سعدي

ايها الحلي المخبوز في تنانير سومر

واكد

ومازال جمرها يتقد في جبينك

ايها الطائر الصادق الامين

المحلق فينا

فديتك نفسي..جناحاك خمر وماء

وصوتك يحتد في المقصلة

فطر بي الى حيث تشتبك الاسئلة

ويبتسم الطفل في السنبلة " ص32

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram