ناجح المعموري
المثير في تجربة الفنان ثائر هادي جبارة الجديدة الاهتمام بموضوعة جوهرية، اهتمت بها الدراسات الفلسفية، وكان محمد أركون أبرز المفكرين الذين اهتم بها واشبعها درساً وتحليلاً،
لأن هذا المجال المعرفي ينفتح كثيراً وواسعاً حول الإنسان وقضاياه اليومية والتاريخية وعلاقاته مع الآخر، والكائن حضور كبير يتعمق باستمرار ويضفي على كينونته مجموعة من القيم والأفكار والتقاليد والعقائد، لكنه لا يكتفي بذاك،
بل يحاول جاهداً أن يتبلور بوضوح جيد، لأن التعرف على الإنسان ومجموع مكوناته المتنوعة، وأهمها الاجتما ــ ثقافي والسياسي والديني تتمظهر لاحقاً عن نزوع قوي للتعارف على المجاور له، ويرتضي الاثنان التحاور مع بعضهما، ليؤسس مثل هذه الرغبة حضوراً بتمظهر عن اهمية الدور الذي تؤديه الجماعة في تطوير الحياة والمجتمع ومثل هذا الذي أشرنا له برز مركزاً في علم الاجتماع، واشبهه دوركهايم الممجد للجماعة وإغناء التبادل بين الأفراد اتفاقاً أو اختلافاً، لأن مثل هذا التمظهر في السلوك والثقافة يمنح الأنسنة عمقاً ونوعاً من الشفافية. وبالإمكان أن نشير الى مجال آخر، تمنحه الأنسنة مركزاً قوياً، ويتمثل ذلك بالتجاور الثنائي بين فرد وآخر وتميزت نظرية عالم الاجتماع « فيبر « الملمح الفعال والمانح لكل من الفرديت طاقة للتعرّف، على الآخر، واكتشاف ما يمكن الاستفادة منه، وتوظيف الإيجابي.
الذي يبرز من خلال الاصطفاف الثقافي، والتضاد ونشوء حالة الجدل التي تضع الأنسنة في مركز يومئ للشحنات، التي لا تنطمس، بل تتكرس، متعاظمة، يعيش وسطها الفرد معتاداً على ضرورات القبول بالتغذية الاجتما ــ ثقافية.
كتاب الأنسنة في المسرح إصدار مهم، قدم كشوفاً اختارت العديد من المجالات الثقافية والمعرفية واتضح منهج الفنان ثائر جبارة أقرب الى الاتساع والتنوع، لا بل العودة الى العتبات التاريخية الأولى التي عاش فيها الإنسان لحظته البدئية الضاجة بطقوسها وتقاليدها ومعتقداتها وأنماط التكيف مع الطبيعة. وكانت الأسطورة ذات حضور مهم، أدركه ثائر هادي جبارة بشكل جيد لأنه يعرف وبوضوح أن الفعاليات الآدمية البدئية هي التعبيرات البسيطة، المعبرة عن كل ما يجري من فعاليات التعايش والدفاع عن المكان. من هنا برزت فعاليات الرقص والغناء، والصيد وتقديم القرابين التي يلاحقها، ويضفي عليه صفة القداسة لأنها ممنوحة للاله الاول الذي تعرف عليه الانسان، ومن هنا ابتكر الانسنة، وانتج وظيفة اخرى للقربنة بعد ذبحها، هل منها طعاماً ليس له فقط، بل للجماعة وهنا نشأت لحظة الدين، ويجب بروز الأسطورة باعتبارها نصاً مقدساً، هيمن عليه الإله، وقدمت نوعاً من السرد الذي تغذت به اللحظة البدئية، التي استطاعت توحيد ما هو معيوش مع التصورات التي تمثل ازدواج الخيالي والغرائبي، اللامعقول والمخيال، و تزاحم الخيالي واللامعقول والمعرفي الذي يتكرر يومياً ليقدم إشباعات يومية / واقعية.
قال ثائر جبارة معرفاً بأن الأسطورة ليست تمثيلاً للخيال المجرد فقط، بل معبرة عن ملاحظات واقعية ورصد الحوادث، التي تومئ لأصول دالة على زمان بعيد الغور حفظته المدفونات والأماكن التي سكنها الانسان، ورسمت صورة واضحة عن آليات الأنسنة عبر ما تركه الفرد والجماعات من محفوظات. أعلنت عنها الحفريات لاحقاً.
يبدو بأن ثائر جبارة ميال للاختصار الزماني، لذا قاد عتبة البدئية وذهب الى سومر والاكدية وتعامل معهما عبر قدراته الممتازة، والكاشفة عنها اللغة بأجمل الأساطير والنصوص الشعرية التي كانت وما زالت فاعلة ومؤثرة في الحياة التي انتقلت لها وأضفت طاقة على الانسنة التي عرفت تلك الفضاءات واندهشت بها، وعاود تقديم تعريف جديد وتكرر ذلك وقال : الأسطورة تراكم لنتاج الفكر الإنساني في مجال الأدب فالأمثلة الصغيرة التي يرويها حكيم القوم سوف تروى مرات ومرات ولن يقاوم الراوي رغبته الملحة والمشروعة في الاضافة اليها من عناصر جديدة نابعة من خياله الخاص.
وعي ثائر للأسطورة جيد، اعتمد عليها بوصفها نصاً بدئياً كان وظل وامتد متطوراً بالتجول واللعب على استدعاء متغيرات في الوحدات النصية، لكنه اغفل مسرحية أوديب مثلاً باعتبارها سرداً أسطورياً، كم هي المهارات التي أعادت انتاجها وغيرّت المعنى فيها وتبدّت دلالات متحركة بها.... منها بإمكان القدرات الفنية ان تعيد بناء الاسطورة مرة ثانية.
احتفظ ثائر نصوصاً جوهرية، لها دور بارز بالأنسنة، لأنها كانت منذ عتبات سومر وأكد وحتى الآن متمتعة بوحدات ثقافية مغذية الكائن الفرد أو الجماعة بروح جديدة، مختلفة لأن النصوص المركزية في خزان الذاكرة فياضة بالتعدد الدلالي وتحفز الذهاب نحو الاختلاف ومثال ذلك ملحمة جلجامش التي ابتدعها الشاعر العراقي القديم، وصارت قبساً فياضاً بالروح الحقيقية لسومر وأكد، لذا اعتبر الفنان ثائر جبارة بالملحمة الخاصة .