TOP

جريدة المدى > عام > متحف بلباو: إرث عمارة ما بعد الحداثة المتجدد

متحف بلباو: إرث عمارة ما بعد الحداثة المتجدد

نشر في: 30 مايو, 2021: 10:04 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

عندما اكتمل تنفيذ بناء "متحف غوغنهايم بلباو" Guggenheim Museum Bilbao، (او اختصاراً "متحف بلباو") سنة 1997،

في تلك المدينة الإسبانية الشمالية بإقليم "الباسك"، والمصمم من قبل المعمار "فرانك جيري" (1929) Frank Gehry، فغر الوسط المعماري العالمي ومعه أوساط ثقافية أخرى، "فاههم" لدهشة ما أنجز ولقيمته التصميمية في مجمل الخطاب المعماري المعاصر، فالمشهد المرئي ليس فقط يتجاوز كل التوقعات التى نادت بها "العمارة التفكيكية"ـ كاحدى المقاربات التصميمية الأكثر رديكالية وقتها في المشهد المعماري، وإنما إبان ذلك المشهد، على نحو واضح، إمكانية أن يكون "الخيال الجامح الافتراضي" الذي توفره التقنيات المعاصرة، "حقيقةً" ملموسة، تتعايش بوئام مع مفردات واقعنا المادي! من هنا يمكن إدراك مغزى ودلالات التقييمات غير المسبوقة في معانيها ومضامينها التى قيلت مباشرة إثر تدشين ذلك الحدث الصاخب الذي قاده ملك اسبانيا "خوان كارلوس" في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1997 بافتتاح مباني المتحف، إذ عدّ ذلك المبنى بُعيد افتتاحه بأنه أحد أكثر الأعمال المعمارية المعاصرة إثارة للإعجاب، واستقبل من قبل كُثر بكونه "لحظة لافتة" في الثقافة المعمارية وخطابها،فنعته المعمار الحداثي "فيليب جونسون" (1906 – 2005) "بالمبنى العظيم لعصرنا الحاضر!"؛ في حين دعاه ناقد صحيفة "نيو يوركر" <بسفينة أحلام مدهشة ذات شكل متموج ملفوف بعباءة من التيتانيوم!>، أما الناقد الفني في " نيويورك تايمز مغازين"، فأشاد بـ "تألقه الزئبقي"، وذهبت صحيفة "الإندبندنت" بعيداً في قولها عنه، بانه "إنجاز معماري مذهل!"، وظلت عمارة المتحف تصف بأنها الأكثر حضوراً في قوائم البحث، واسمها بقى يُتداول بكونها من أهم الأعمال التي نُفذت منذ سنة 1980، وفقاً لنشرة "الدراسات الاستقصائية للعمارة العالمية" لسنة 2010.

لماذا كل هذا الاهتمام بعمارة المتحف، ما مسوّغ هذه الإشادات؟!

-لماذا؟... - لأن حدث عمارة المتحف بدا حافلاً بغرائبية غير مسبوقة، إن كانت من ناحية تنطيق لغة التشكيل التصميمي أم لجهة نوعية المقاربة المعمارية المتفردة الموظفة في المبنى، أم بسبب نوعية الأسلوب الإنشائي وطبيعة المواد الانشائية غير التقليدية المستخدمة في تنفيذ المبنى! في إحدى كتبه التي نالت اهتماماً واسعاً، يكتب المعمار العالمي المعروف، ومنظر العمارة التفكيكية "بيتر ايزنمان" (1932) Peter Eisenman، من أن عمارة ما بعد الحداثة أتت لتقويض نفوذ مفهوم "العمارات" السابقة عليها (بضمنها مفهوم عمارة الحداثة)، التي ظلت تلك العمارات لقرون تحت تأثيرات أوهام Fictions متخيلة، يجملها المعمار الاميركي ويضعها تحت ثلاثة مسميات، وهي: أولا "وهم التمثيل Representation "، و ثانياً "وهم المنطق Reason"، وثالثاً "وهم التاريخ History"، ويرى في كل وهم من تلك الأوهام "وسيلة" لتحقيق خصائص محددة، ارتبطت بها تلك العمارات، وشرحها بإسهاب في كتابه " Re- Working Eisenman, الصادر عن دار نشر Academy Editions في 1993 بلندن (انظر: ", pp. 24-25 Re- Working Eisenman,. وكذلك "راستي الخفاف، <التفكيكية في العمارة>، رسالة ماجستير (غير منشورة)، بغداد، 1996). ومع أن "فرانك جيري" لا يرى نفسه، من ضمن أنصار "التفكيكية" المعمارية، فان مبناه "البلباوي"، أتى ليظهر بصورة صريحة (و.. صارخة أيضاً)، جميع قيم العمارة التفكيكية، مقوضاً في ذلك كل "أوهام" الحداثة التي تشبثت بها لعقود. نحن، إذاً، أمام لحظة فارقة في تاريخ العمارة، وشهود على منعطفها الحاد والمؤثر.

عندما كلف المدير التنفيذي لمؤسسة متاحف غوغنهايم المعمار فرانك جيري لتصميم متحف بلباو سنة 1991، طلب منه أن يكون التصميم المبتدع على درجة عالية من الابتكار والجرأة! ولم يخيب "فرانك جيري" أمل ذلك الشخص الاداري، فجاء تصميميه خلاقاً ومغايراً لكل ما انتج من عمارة سابقة! ولعل هذين الخاصتين وهما "الابتكار والجرأة" هما اللتان وسمتا بوضوح نوعية المقاربة التصميمية التي اقترحها المعمار وحدّدت بالتالي لغة عمارة المبنى! لقد ركـًز فرانك جيري في حله التكويني على حضور "التعارض" Contrast، كاحد الوسائل الفعالة لبلوغ أقصى ما يمكن من تأثير جمالي وبصري، ثمة كتل يغلب على هيئتها أشكال هندسية منتظمة وبمظهر لفتحات نوافذ عادية مكسوة بمواد تقليدية معروفة وهي "الحجر الجيري" تهيمن على هيئات مفردات الواجهة الجنوبية لمبنى المتحف، تخالف بصورة صارخة وتناقض نوعية الكتل المصطفاة لـعناصر الواجهة الشمالية المطلة على نهر "نرفيون" Nervion، الذي يخترق مدينة بلباو، والذي يشغل موقع المتحف أحد ضفافه، وأشكال هذه الكتل المصممة، تبدو مصممة بشكل عام، وعلى درجة عالية من العشوائية، بحيث تلوح وكأنها كتل "طائشة" لا تتقيد بنظام، و ما يزيد من "صدفوية" أشكال تلك الكتل الزاخرة بالحركة المنسابة بغير هدى، أشكال هياكلها الملتوية ونظام تكسيتها، ومواد الاكساء ذاتها المصنوعة من صفائح التيتانيوم Titanium، وإذ يحار المرء في شأن تبرير اختيار تلك الأشكال المبعثرة، فانه يتمنى إيجاد إجابات مقنعة عن مسوغات أشكال تلك الأقسام الحرة، والأهم محاولة معرفة طرق تنفيذها، هي المترعة بملامحها "العفوية"، لكن تلك التساؤلات العديدة التي تثيرها رؤية هيئة المتحف الغريبة، تغدو لاحقاً جزءاً من حوار مستمر ينشأ بين عمارة المتحف ومشاهدي تلك العمارة وزوارها الكُثر؛ حوار ما إنفك يولد أسئلة أخرى (ومحاولة إيجاد إجابات شخصية لها..أيضاً)، يمكن بها تأليف "سردية" جمالية ناجزة تثري، في النتيجة، مخيلة المتلقي، وتزيد من متعة المشاهدة!

كان فرانك جيري، معماراً معروفاً نوعاً ما إبّان ذلك التكليف، هو المولود في سنة 1929، بمدينة "تورنتو" بكندا، التي هاجرت عائلته منها عام 1947 الى كاليفورنيا، وقد أكمل دراسته المعمارية في جامعة جنوب كاليفورنيا متخرجاً منها سنة 1954، و درس لاحقاً في جامعة هارفارد (1956 -57) تخطيط المدن. بعد ذلك عمل في العديد من المكاتب الاستشارية قبل أن يؤسس لنفسه في سنة 1962 مكتباً خاصاً باسم "فرانك جيري ومساعدوه" (وقد غير اسم المكتب في سنة 2002 الى "جيري ومشاركوه")، وأثناء السبعينيات وبداية الثمانينيات، عندما بدأت تنتشر في الوسط المعماري موجات ردود الفعل ضد مباني الحداثة المتسمة بـ "البرودة" الشكلية، التي ملأت المشاهد الحضرية في مدن العالم، سعى "فرانك جيري" الى تجريب وسائط معبرة غير عادية، باحثاً لنفسه عن مفردات لغة تصميمة خاصة به، وفي أعماله المبكرة صمم بنى ملتوية، مشدداً بها على حضور المقياس الإنساني والتكامل مع السياق المبني، على أن جوهر مفهوم تجاربه الاستقصائية تجسدت بشكل واضح في "التجديدات" التي نفذها بمنزله السكني الخاص سنة 1978 بمدينة "سانتا مونيكا" /كاليفورنيا (عاد مرة أخرى في 1991 – 1994 وأضاف عليه تحويرات أخرى). ففي ذلك المنزل التقليدي المشيد سنة 1920، على الطراز الهولندي الكولونيالي، والذي اشتراه المعمار وزوجته لهما ولعائلتهما سنة 1977، حاول "جيري" أن <يعري> المبنى المتكون من طابقين مبقياً على هيكله العام الخارجي، وخالقاً حول ذلك الهيكل "غطاءً" آخر جديداً، تاركاً أقسام من واجهة البيت القديمة مرئية من الخارج، وقد نفذ قشرة الغطاء الجديد من إطارات مشغولة من الحديد المتموج Corrugated –steel مضاف إليها مكعبات مائلة ذات أشكال غير متماثلة مصنوعة من قضبان معدنية وزجاج، وبهذه الإضافات فان المبنى القديم يظهر وكأنه ينفجر و"يتفكك" كليةً نحو الخارج! وقد عُدّت تلك التجربة بكونها من أوائل الأعمال "التفكيكية "Deconstruction بالمشهد المعماري (مع أن فرانك جيري، يعلن مراراً، كما أشرنا، بأنه لا ينتمي الى تلك الحركة)، ومنذ تلك التجربة الرائدة التي أجراها على منزله، بقى فرانك جيري أميناً لفكرته تلك، طامحاً أن يكون كل مشروع مكلف به، بمثابة "قطعة نحتية وفنية بحيز مكاني مليء بالضياء والهواء"، كما يؤكد، وهو ما سعى وراء تجسيده في مشاريع عديدة إبان الثمانينيات وما بعدها، وظلت غالبية أفكار تلك التصاميم تستدعي مبادئ "تفكيكية" منزله في سانتا مونيكا، ذلك المنزل الذي بقى لفترة طويلة بعيداً عن نيل إعجاب كثر من جيرانه في ذلك الحي الهادئ من المدينة!

في مسعاه لايجاد "فورم" استثنائي لمبنى متحف غوغنهايم في بلباو، يذهب "فرانك جيري" بجرأة نادرة باتجاه بلاغة معمارية جديدة، تتقدم فيها، بوضوح، الصيغة التشكيلية على الرؤيا النفعية/ الوظيفية مبتعداً كثيراً، في الوقت نفسه، (ولاسيما فيما يخص عناصر الواجهة الشمالية للمتحف)،عن أي أثر لمسحة عقلانية تسم المعالجة التصميمية لمبناه، وكذلك فيما يتعلق بمنظومة القوام الانشائي له أيضاً، فهو يعرف جيداً بأنه مهما كانت رسوماته الأولية خيالية ومعقدة "لاميج" مبناه المستقبلي، فان الوسائط التقنية المتقدمة التي يستخدمها كفيلة بإيجاد الحلول المثالية لفنطازيا رؤاه و"خربشاته" المرسومة Sketches. وهذه الثقة العالية بما يملك من أدوات سهّلت عليه إيغاله، على قدر كبير، في عفوية مفرطة؛ عفوية، أعاد "جيري" تأثيثها بعدة معمارية تحمل في طياتها مزيجاً من الجرأة التصميمية والتوق لتجاوز المألوف والتغاضي عن ذاكرة الذائقة المعمارية التى سادت عقوداً من الزمان! فما يقترحه المعمار الطليعي لنا من معجم لغوي تصميمي جديد يفوق كل ما نعرفه عن مفهوم العمارة والعمران! نحن إذاً شهود لميلاد حدث تصميمي يشي بمقاربة معمارية، تدلل بوضوح عن لحظة غياب تلك "الأوهام"، التي تحدّث عنها يوماً ما "بيتر ايزنمان"، والتي أتينا على ذكرها في مطلع المقال، وكل هذا الإمكانات والفرص غير المسبوقة أمست متاحة له ولفريقه التصميمي من خلال توظيف برمجيات منظومة "كاتيا" CATIA (وهي منظومة برمجيات كمبيوترية)، التي تولت رقمنة ونمذجة رسوم الواجهة الخارجية، وعمل نماذج بأبعاد ثلاثية لها للتوصل عن طريق التحليل والدراسة الى الشكل المثالي من النواحي الجمالية والوظيفية والإنشائية التي أوحت بها مخططات المعمار الأولية ورسومه السريعة، وإذ جاءت حلول اللغة التصميمية لمفردات مشروع المتحف بهذه الانسيابية والتلقائية وبمثل هذه الأشكال الملتوية المعقدة، فما هذا سوى نتيجة إدخال عمل البرمجيات كأداة أساسية في مهام التصميم، إذ بدونها، بدون عمل تلك البرمجيات، كان من المتعذر الوصول (... والحصول أيضاً!) على مثل تلك الحلول، وهو ما لاحظه أيضاً أحد النقاد المعروفين عندما أشار بأنه"لم يكن بالإمكان تصميم متحف غوغنهايم من دون <كاتيا>"، وقال أيضاً، بأن "متحف بلباو كان أول مبنى لعبت فيه <كاتيا> دوراً أساسياً تقريباً في كل جانب من جوانب التصميم المعماري وحسابات التنفيذ الإنشائي". وبهذا يضيف متحف بلباو الى "مآثره"، مأثرة فتح الطريق واسعاً أمام استخدام أنظمة الكمبيوتر لخلق "مجسمات" افتراضية، تسهم في إيجاد حلول مثالية للمشاكل التصميمية.

ومتحف غوغنهايم بلباو يشغل موقعاً بجانب ضفة نهر "نرفيون"، بمساحة قدرت بـ 33.500 متر مربع، كانت في السابق تشغلها منطقة صناعية، والحل التكويني له يعتمد على وجود فضاء مركزي يمثل "بهو" المتحف الرئيس (يدعوه المعمار بالزهرة)؛ وقد أسبغ المصمم عليه أهمية خاصة، فجاء بارتفاع يصل الى حوالي خمسين متراً ومسقف في قمته قبة تتيح إضاءة هذا البهو من الأعلى، وتتفرع من هذا البهو طوابق المتحف الثلاثة الأساسية في اتجاه قاعات العرض التي وصل عددها الى 19 قاعة وبمساحة إجمالية قدرت بـ 11.000 م2؛ من مجموع المساحة الكلية للمتحف التي بلغت 24.000 م 2، ثمة عشر قاعات من مجموع قاعات المتحف تمت معالجتها تصميمياً بصورة تقليدية وبأشكال هندسية منتظمة وذات تكسية خارجية بالحجر الجيري التقليدي، في حين ركز المعمار بأن تكون القاعات التسع الأخرى ذات أشكال مميزة وغير منتظمة، وتم تكسيتها بالواح التيتانيوم التي بلغت سماكته حوالي نصف مليمتر فقط، وقد برر المعمار استخدام تلك المادة ببواعث بيئية وجمالية وانشائية أيضاً، نظراً لخفتها مقارنة بالحديد أو الصلب!

وكلمة أخيرة عن عمارة المبنى التي مانفكت تعتبر من الأحداث المهمة والرائدة والمؤسِسة لمفاهيم معمارية معاصرة أغنت بوجودها المشهد المعماري وخطابه، ذلك أن عمارة المتحف وبشكلها المميز، وما تعني دلالات ظهورها اللافت في نهاية الألفية، لا تزال تقيّم بكونها "إرث" عمارة ما بعد الحداثة ونموذجها المؤثر، الذي استطاع بحضوره المعماري الساطع أن يؤسس ما يعرف بــ "تأثير بلباو"، وما ترتب عنه من مكاسب اقتصادية وثقافية وسياحية للمدينة وللبلد الذي أقيمت به تلك العمارة الاستثنائية!

ومع كل ما تتمتع به عمارة المتحف من تجديد وإيجابيات وشهرة واسعة، فإنها انطوت، أيضاً،ـ على صفات سلبية... ولكن ذلك "قصة" آخرى!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram