رواء الجصاني
ما برحت المؤلفات، والمنشورات التي تهتم بشؤون السير الذاتية والتأرخة تحظى بإقبال متزايد عند جمهور القرّاء..
وقد تصدى – ويتصدى - العشرات من المعنيين العراقيين، بأشكال مختلفة، لمتطلبات ومسؤوليات التوثيق للشأن الوطني العام، وأحداثه ووقائعه، وكتب عشرات منهم، والسياسيون الفاعلون خاصة، سيّـراً ومذكرات وذكريات، الى جانب أحاديث وحوارات تلفزيونية وسواها، وقد أصبح ذلك – أو سيصبح - مصادر تاريخية يلجأ إليها أكاديميون وباحثون يستفيدون منها بجدية وحرص، فيما يقتبس منها مناكفون، ومترصدون، دون أمانة أحياناً، اعتماداً على الثقة العفوية من جهة، وضعف الاهتمام بالدقة، واختصاراً للوقت أوالجهد، وربما كلاهما، من جهة أخرى..
لقد تباينت – وتتباين- مؤلفات السيرة والذكريات في أسلوبها، وفي لغتها، وسياقاتها، فكان بعضها يرقى الى شكل من أشكال الكتابة الأدبية، فيما راح قسم آخر أشبه بيوميات مغرقة بتفاصيل ليست مهمة لغير من يعرف عنها، أو مشمول بها.. وفي كلا الحالين، وما بينهما، نزعم بأن ثمة طموح يرجوه الكثيرون لأن يكون القادم من تلك الكتابات أكثر اهتماماً بالشأن العام، ومحاولة الابتعاد عن "الأنـا" إلا في مكانها وزمانها الطبيعيين، لكي لا تكون مقيتة، بل وذميمة.. وحسناً أن نستبق من "قـد" يفهم بأننا ندعو الى الابتعاد عن الجدال والتوثيق، فنقول، على العكس، إن ذلك الجدال والحوار أكثر من مرجوٍ ومطلوب، ولكن على أسس حضارية، وبعيداً عن النرجسية، وعن التزمت والتدليس واثارة البغضاء..
إن ثمة قاسماً مشتركاً بين جميع تلك المؤلفات، وهو تأكيد أصحابها المبرز، بأن ما يكتبونه يأتي " لخدمة الحقيقة والتاريخ" وكأن في الأمر أحياناً، محاولة استباق لمنع "التشكيك" واحترازاً من "تهمة" الذاتوية في تسجيل وتوثيق الأحداث والسيّر والأدوار، وأزعم بأن ذلك التوكيد المبالغ به قد يقود المتفحصين الى استنتاج العكس تماماً.. خاصة وقد يجري أعتماد بعض الوثائق المنتقاة، أو اجتزاء فقرات ومضامين، مكتوبة أو منقولة شفاهاً، تدعم وتفيد ما يُـبتغى منها، ويُـرادُ لها..
كما من السهل أيضاً الوصول الى قناعة بأن كثيراً غالباً من تلكم الذكريات والسيّر يتوخى جمهرة محددة من الناس، ويتوجه بشكل رئيس الى القرّاء والمتابعين الذين عملوا أو تشاركوا في العمل السياسي أو الوطني مع كتاب السيرة، ومؤلفي الذكريات، ويعلمون بما أجترحوه من مواقف مشرفة، كما خاطئة، أو عليها ما عليها من خلافات وتفاسير جاءت مصحوبة بتوضيحات أو اعترافات خجولة بالاخطاء، والخطايا حتى، وترحيلها بصراحة أو توريةٍ الى آخرين، مع بعض الاستثناء هنا وهناك ..
وبعد متابعة دقيقة، واطلاع معمق، يمكن القول إن العديد من أصحاب السيّـر والمذكرات، التي شملت العقود الستة الماضية، خاصة، يبالغون بالانتقاص وإلقاء اللوم على من تخالف أو أختلف معهم في الرؤى والمواقف، وفي التاريخ السياسي والنضالي المشترك، برغم أن مسيرة ذلك التاريخ، والصحبة المشتركة امتدتا عقوداً بعض الأحيان، تعرضوا خلالها لشتى أشكال القسوة والعنف من أجهزة الأنظمة القمعية.. وقد تحملوا ذلك العسف، منفردين ومجتمعين، بصلابة وتضحيات تسجل للكثير منهم بأمتياز، غير انهم لم يستطيعوا، في ذات الوقت، تجاوز التنافس الشخصي، وردود الأفعال الذاتية، وقبول تبايّن القناعات، وأهمية الجدال.. ولا نقلّـل هنا مطلقاً من مشروعية الدفاع عن الذات، والحقيقة، وأهمية تأرخة الأحداث، وضرورات تبيّان المواقف وتحديد المسؤوليات، والتصدي للتجاوزات والاتهامات.
وبالارتباط مع الفقرة السابقة، لعل من المهم أن نشير هنا أيضاً الى خطالة السعي لمحاكاة الحاضر بالمفاهيم والقيم السابقة، والاستناد عليها في الكتابة "للتاريخ" بعيون الماضي، دون الالتفات لجملة مؤشرات من أهمها الظروف السياسية والاجتماعية والمعرفية التي كانت تسود في حينها، ومتانة ورسوخ التجربة، ومستويات الإدراك والوعي، وشيوع التزمّت بأحتسابه "ثباتاً مبدئياً" .. دعوا عنكم التقديس الايديولوجي، والثورية - الحقيقية أو المدعاة - ومزاعم امتلاك الحقيقة..
لقد كان حرياً بنا طبعا أن نشير لأمثلة ملموسة، ولأسماء بعينها، لتأكيد ما ندعيه من أراء ورؤى، ولكن من دوافع الابتعاد عن ذلك – برغم توفر الكثير منه- تأتي قناعتنا بأن طرح ذلك، الآن، سيثير المزيد من الغلّـو والأحن، والعصبيّات، خاصة والبلاد العراقية وشعبها تحتاج لتضامن مجتمعي، وترفّع إنساني عن الخصوصيات والصغائر، في ظل الأزمة – بل الأزمات- الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ما برحت تشيــع المزيد من الأحباط السائد، والمتراكم أصلاً، من السياسة والسياسيين .. كما من الدوافع الأخرى لأقتصار كتابتنا هذه على العموميات، وليس الملموسيات، ثمة "خوف" من أقلام وألسن تنتظر أيّما سبب ورأي، أوموقف مخالف، لتبيح لنفسها الدفوعات المتشدّدة، أو الانفعالات في الردود والتحاور والجدال.. فالوسطية باتت بعيدة - كما نرى- في زحام الاتهامات المتبادلة، وتصيّد الأخطاء، والتشنجات وتلك من أشد العلل، وأقساها كما نظن..
إن ما يؤلم أكثر في هذه الحال الذي نتوقف عندها، هو قيام إعلاميين ومتابعين وغيرهم بقراءات مسبقة التقييم، لما تحتويه الذكريات والسيّر والشهادات ذات الصلة، وعرض بعضها بعيون "تبدي المساوئ" ولدوافع مختلفة قد يكون من بينها حب الإثارة، وحسابات واصطفافات شخصية، أو مواقف مختلف عليها في أحداث هنا ووقائع هناك، وخاصة حين يجري الانتقاء والاجتزاء، بل وحتى تشويه الحقائق، ولحد تزييفها أحياناً، والأكثر إيلاماً أن يكون بعض المقصودين هنا، مشاركين بهذا القدر أو ذلك في قضايا وتعقيدات الأمس التي يتبرؤون منها اليوم..
إن الهوامش والملاحظات التي سترد في الفقرات اللاحقة لا تعنى – كما أسلفنا القول بشأنها- بالأسلوبية، ولا شكلية الكتابة، ولغتها، فلتلك أحاديث أخرى تطول وتتسع، وهي من اختصاص النقّاد والمنتقدين ذوي الباع بفنون الكتابات والسرد، ولسنا من بينهم.. وبمعنى أن ما سيجري التطرق إليه، وحوله يركز على المضامين والمعلومات الواردة في الكتب والمؤلفات المعنية بالمذكرات السياسية والسير الشخصية، والذكريات والتأرخة العامة، ومن بين ما نزعم عنه:
1 - قيام بعض كتاب و"كتبة" سيرهم الشخصية، أو عن الآخرين – اللجوء - ولربما بهدف "تضخيم" صفحات المنجز – الى خلط الأمور، وبتداخل مفضوح أحياناً، في الحديث عن تفاصيل بديهية أو معروفة بشكل كبير، وبلا أية ضرورة، ثم يذهب (المؤلفون!) بعد الإسهاب الممل فيشيرون عبوراً ومروراً بـ"سيرتهم" أو علاقتهم بالحدث المعني، بكلمات أو جمل قصيرة طارئة.
2 - طفوح ظاهرة الـ ( نا) وإشاعة الإيجابيات، مقابل إغفال المعاكس، وحتى إنْ تطلّب الأمر القفز على أحداث معروفة، أو شبه موثّقة، مما يضع الكاتب/ المؤلف في حرج معيب أحياناً ، وهنا لا نقصد بأية حال غمط مشروعية المؤلفين والكتّاب في الحديث عن أدوارهم ومواقفهم، والتوثيق لها، في شؤون الحياة العامة خصوصاً..
3 - اجتزاء الوقائع، ومحاولة استغفال المتلقي غير المتابع، بل وحتى تزوير المعلومة كاملة، بهدف تمرير ما يدور في ذهن الكاتب من مشاعر أو رغبات، أو مساعٍ لتصفية حسابات شخصية، ثقافية مرةً، وسياسية مرة، وحتى اجتماعية في حالات أخرى.. وكم جرى "التدرع" بأن تقوم شخصية معروفة بكتابة تقديم للمؤلف المعني، وسواء جاء ذلكم التقديم إقتناعاً أو مجاملة، أو تلاقي النيّات والآراء.
4 - شيوع المجاملات الصداقية والوجدانية، والعلاقات الشخصية في اختيار التوثيق أو الحدث في الكتابة.. وفي غمار ذلك يسود، أو يجري نسيان أو تناسي مواقف سابقة للكاتب نفسه، مخالفة وربما متشدّدة حول، وضد، نفس الشخصية التي يجري مجاملتها لاحقاً لهذا السبب أو ذاك..