جمال العتّابي

توجّه كل من باسل محمد عبد الكريم، وياسر جاسم قاسم نحو دراسة حياة الشهيد عبد الرزاق مسلم، بهدف الوصول الى العلاقة الحميمة بين سيرة مسلم الشخصية، بوصفها مرجعاً، وتجربته الفكرية والعلمية.

من خلال الكتاب الذي أعداه، وأسهما في تحريره إلى جانب حسين الهنداوي، وسعد السعدي، وهو بعنوان(العالم الدكتور عبد الرزاق مسلم الماجد..... سطور بيضاء من حياته)، والصادر عن دار البصائر للنشر في 2021. والمثير في حياة عبد الرزاق، هو قضية إغتياله في 21-3-1968، على ضفاف شط العرب، إذ تعددت الآراء، وتباينت الأسباب في مقتله، وما يزال الإختلاف قائماً لحد الآن، وكذلك تتوارد الأسئلة عن الجهة المسؤولة عن إغتياله، وحاول الكتاب التوصل الى معرفة الجناة، لكن دون جدوى، أمام طرح ثلاثة إحتمالات، تظل خاضعة للتأويل والتكهن.

ولد عبد الرزاق مسلم في مدينة الناصرية عام 1929،في بيئة متعلمة، فوالده كان معلماً مؤثراً في الوسطين الاجتماعي، والمندائي، أكمل عبد الرزاق تعليمه الثانوي في الناصرية، ثم إلتحق في دار المعلمين العالية، قسم اللغة العربية، وعين مدرساً في ثانوية الناصرية، بعد تخرجه من الدار، كما يروي صهره سعد السعدي ذلك، ولأنه شخصية واعية ومدركة، منتمية للحياة في مداها المتفائل، ويمتلك إرادة فعالة وجريئة، ومؤهلة للقيادة، تسلم مسؤولية محلية الحزب الشيوعي في الناصرية، وفي عام 1960سافر إلى موسكو في إجازة دراسية، ونال درجة الدكتوراه في فلسفة ابن خلدون، وعاد الى العراق عام 1967، وتم تعينه أستاذاً للفلسفة في جامعة البصرة.

يقول عنه زملاؤه، انه كان حاد الذكاء، مثالاً في الأدب والأخلاق، مثابراً شديد الحرص في درسه، تعلّم اللغة الروسية في فترة قياسية، إنصرف تماماً للبحث، غير آبه بما يشغله، ويبعده عن الدرس، أوبما يفعله الطلبة الآخرون في جلسات اللهو والسهر، كرّس جلّ وقته وإهتمامه لتحقيق هدفه العلمي، وبتفوق، وكان حريصاً بنفس المستوى على التزاماته الحزبية والسياسية، في منظمة الحزب هناك.

يذكر عبد الحسين الهنداوي، في بحثه (عبد الرزاق مسلم، ونظرية المعرفة عند ابن خلدون)، انه شغل موقعه كمفكر عراقي، ضمن النخبة من العقول النيرة، وتمثل مؤلفاته الفلسفية أول محاولة لدراسة نظرية ابن خلدون في علم التاريخ، من وجهة نظر مادية تاريخية،في البلدان العربية، مواصلاً ومعمقاً تياراً فلسفياً عالمياً في هذا المجال، وإعتمد ياسر جاسم، مهمة تلخيص الآراء الفلسفية في فكر مسلم، ونظرته للأخلاق، ومسيرة التاريخ، والعلاقة بين الفلسفة والفيزياء، ونظرته للتشكيلات الإقتصادية والإجتماعية، وقراءته للأثر النفسي في علم الإجتماع، ولعبد الرزاق آراء في جدل هيغل، ونظرة جديدة في التصوف، الذي تبناه، كإتجاه تقشفي في الفلسفة الإسلامية، وإحتجاج للفئات المحرومة ضد قوى الإستغلال والإستبداد.

كان عبد الرزاق مسلم ثرياً في تجارب حياته العصية على الراحة، على الرغم من قصر هذه الحياة، يعشق الأدب والموسيقى، وخاض سلسلة مواجهات وتحديات، إنتهت بإغتياله التراجيدي، عندما إنطلقت رصاصات من كاتم للصوت، قرب أحد مقاهي كورنيش شط العرب في البصرة، وهو في طريقه لزيارة زميل له في الجامعة، برفقة صديقه الاستاذ موسى الموسوي، وهو تدريسي إيراني معارض، وحفيد احد المراجع الدينية في إيران، كانت الرصاصات له بالمرصاد، تركت عبد الرزاق مسلم مضرجاً بدمه على الرصيف، نازفاً حتى الموت، وذكر الشهود المارة، ان السلطات الأمنية والصحية، تركته على هذا الحال، ولم تسعفه سريعاً، وهو ما يثير التساؤل عن ضلوع الأجهزة الامنية، بحادث الإغتيال، وفي إحتمال آخر تعاونها المشترك بالتنسيق مع أجهزة السافاك الإيرانية، في رصد نشاطات المعارض الموسوي، ومن ثم تصفيته، وهو المرجّح في حادث الإغتيال، والمستهدف أولاً، وكان الصيد أثمن مما توقعت تلك الاجهزة، حاصرت الجموع القنصلية الإيرانية في البصرة، اذ شهد البعض توجه الجناة بسيارتهم إلى مبنى القنصلية، وانطلقت مظاهرات صاخبة من الطلبة والتدريسيين استمرت لمدة ثلاثة أيام، مطالبين بالقصاص من القتلة. ومن غير المستبعد ان يكون عبد الرزاق أحد أهداف اجهزة الأمن، كمفكر يساري معروف، في الوسط الجامعي، كرّس حياته للعمل السياسي الحزبي، وهذا ما يدعو للإعتقاد ان السافاك والأمن العراقي، نسّقا من أجل تصفية الشخصيتين،بآن واحد، الموسوي، وعبد الرزاق، وشهدت تلك المدة سلسلة إغتيالات طالت عددا من الشخصيات المعارضة للنظام، وكان الدكتور عبد الرزاق مطل، الاستاذ اليساري في جامعة الموصل، أحد الضحايا، واللافت بهذا الخصوص،والمحزن، ان ادارة جامعة البصرة، لا تحتفظ بأية وثائق تخص الشهيد عبد الرزاق، إذ يبدو ان جهة ما مسؤولة عن إغتيال الوعي، وقتل الذاكرة، وسحق إرادة الإنسان في قمة مجده، وإسكات صوته، وقمعه.

يأخذ الحديث عن فكر مسلم، الحيز الأوسع في فصول الكتاب، وكان باسل مع زميله ياسر، وفيين، مخلصين، في جمع وإعداد وتحرير مادة الكتاب، غير أن هذا ليس كافياً لإنجاز عمل ناجح يعمّق الإحساس، ويولد جمرة الإيقاظ في منجز مسلم العلمي والفكري، الذي يراد منه أن يكون فاعلاً ومؤثراً ومعمّقاً، للتجارب الإنسانية، لا مستعيداً ومكرراً لها. وكنت آمل أن ينحى الكتاب نحو مناقشة قضية أهم، تتعلق بإغتيال العقل فمنظورات المفكر عبد الرزاق مسلم في مجال الفلسفة الخلدونية، كانت لولا إغتياله، ربما ستأخذ لديه منحى أكثر خصباً وتوسعاً وتأثيراً في مصير ذلك المنظور الذي أراد أن يثبت علاقة قوية بين ابن خلدون والفلسفة، حسب رأي الهنداوي، وان يجد في المقدمة أفكاراً تدعم التفسير الماركسي للتاريخ.

و بعد أكثر من نصف قرن من الزمان، على إغتيال عبد الرزاق، المتوهج بمشاريع واعدة ومتجددة، ماتزال التساؤلات قائمة بجدية وفاعلة، وحافزاً لإثارة الجدل المثمر حول الصراع بين قوى الظلام، والفكر المتنور، وما موقف المثقف إزاء ما يحدث، ومثلما انحاز عبد الرزاق الى الطبيعة الإنسانية النقية، كان هناك جيل من امثاله ينتظر نفس المصير، من كوابيس القتل الأعمى، فرج فودة، مهدي عامل، حسين مروة، كامل شياع، قاسم عبد الامير عجام، وغيرهم، هؤلاء كانوا محتفلين بالحياة، إنتزع القاتل حضورهم الإنساني البهي.

هنا المسافة الفاصلة بين جهل القاتل وشذوذه، ودمويته، وبين تحدي الموت واختراقه بالأفكار والعقل، لن تكون هذه المقارنة عادلة في أي حال، لكن هذا هو إصطراع القيم وتصادمها دموياً، انحرافها عن تصريف الإختلاف بالحوار والجدل، الذي التزم بهما عبد الرزاق طيلة حياته إنساناً ومثقفاً.