TOP

جريدة المدى > عام > أليس في بلاد الكم .. رحلة خيالية في عالم فيزياء الكم

أليس في بلاد الكم .. رحلة خيالية في عالم فيزياء الكم

نشر في: 29 يونيو, 2021: 10:24 م

لطفية الدليمي

ربما يكون السؤال التالي واحداً من الاسئلة الجوهرية التي تفرضُ أهميتها فرضاً على كلّ مشتغل في حقل تأريخ العلم وفلسفته (وبخاصة في الفيزياء الحديثة) :

لماذا صارت نظرية فيزيائية مثل نظرية الكم متغلغلة في كلّ شؤون العلم والثقافة والتقنية بهذه الكيفية غير المسبوقة بالمقارنة مع نظريات أخرى؟

الجوابُ يكمنُ في أنّ نظرية الكم ساهمت أكثر من سواها من النظريات الفيزيائية في مساءلة الأساسيات الخاصة بطبيعة الوجود البشري والكينونات المتصلة بهذا الوجود (الزمان والمكان، الوعي، الواقع، طريقة إكتساب المعرفة، كيفية عمل العقل البشري،،، إلخ) ؛ بل أنّ الإشكاليات المعرفية والفلسفية الخاصة بنشأة نظرية الكم وكيفية تأويلها لاحقاُ تعدُّ إحدى الإنعطافات الثورية الأكثر إدهاشاً في تأريخ العلم بأكمله. هذا من الجانب الخاص بتأريخ العلم وفلسفته ؛ أما من الجانب التقني تعِدنا نظرية الكم بثورات تقنية غير مسبوقة قد يكون الحاسوب الكمومي أحد نتائجها التي سنشهدُ تأثيرها الحاسم في العقود القليلة القادمة.

يرتبط ميكانيك الكم لدى الأغلبية بنوع من الغرابة والأوهام التي صارت قطّة شرودنغر (نصف الحية ونصف الميتة) مثالاً قياسياً لها ؛ ولكن هذا الأمر يتفق كثيراً مع الطبيعة المحيّرة للمفاهيم الوجودية الكبرى المؤثرة في حياتنا. حياتنا ذاتها قد لاتعدو أن تكون وهماً بمعنى أنّ مانحسبه حقيقة راسخة ليس سوى مواضعة سايكولوجية تتباين بحسب الأفراد تبعاً للأمثولة الفلسفية القائلة (نحن لانرى العالم كما هو ؛ بل نراه على الحال الذي عليه نحن !). لاحدود لسلسلة الأوهام التي يمكن أن نختبرها في حياتنا إلى حدّ صارت معه المفاهيم الفيزيائية الوجودية الأولية (الزمان، المكان، الوعي،،،) أوهاماً كاملة تتقاطع مع رؤيتنا البديهية لها بحسب مايرى معظم الفيزيائيين الذين باتوا يرون الوجود أقرب إلى محاكاة حاسوبية كاملة محكومة بقوانين فيزياء الكم الغريبة.

نظرية الكم (والفيزياء الحديثة بعامّة) ميدان سحر حقيقي لمن يثمّنُ مكامن السحر في العلم المعاصر والفلسفة المعاصرة والعلاقات المشتبكة بينهما، وأحسبُ أنّ كلّ من لم يتوفّرْ على شغف حقيقي بهذا المبحث المعرفي هو إنسانٌ خسر بعض أجمل الكشوف المعرفية التي يمكن لنا بلوغها في هذا العالم.

لاأحسبها إلا تجربة رائعة (وهي ليست الأولى) تلك التي أتاحتها مؤسسة هنداوي للنشر عندما نشرت في سنة (2020) ترجمة عربية مجانية متاحة للقرّاء على الشبكة العالمية (الإنترنت) لرواية الخيال العلمي المميزة (أليس في بلاد الكم : رحلة خيالية في عالم فيزياء الكم) التي كتبها الفيزيائي الأمريكي روبرت غيلمور Robert Gilmore ونُشِرت عام 1995، وكم أتمنى أن تكون مجانيتها حافزا لقراءتها والإطّلاع على أحد أكثر المباحث العلمية تميزاً وغرابة في عصرنا هذا مثلما كان في القرن العشرين، وأعني بذلك مبحث (ميكانيك الكم) الذي قاد إلى إنعطافة ثورية على صعيد العلم والفكر والفلسفة، وليست المجادلات المستفيضة بين ألبرت آينشتاين ونيلز بور حول الجذور المفاهيمية والفلسفية لنظرية الكمّ إلا واحدة من أكثر الشواهد على مدى غرابة هذه النظرية وتغلغلها في كافة المباحث العلمية حتى صار الحديث اليوم يتناول - على سبيل المثال - البيولوجيا الكمومية والحوسبة الكمومية والتشفير الكمومي،،، إلخ. ليس (روبرت غيلمور) فريداً في تجربته الروائية هذه ؛ بل يمكن القول أنّ معظم الفيزيائيين ذوي الشهرة العالمية نشروا أعمالاً روائية شبيهة برواية (أليس في بلاد الكم) أو سعوا على أقلّ تقدير لكتابة أعمال مماثلة لها، وأذكر في هذا الشأن (آلان لايتمان Alan Lightman ) في روايته الجميلة (حلم آينشتاين Einstein’s Dream) وهي مترجمة إلى العربية.

أحدثت رواية الخيال العلمي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وبواكير القرن التالي إنقلاباً مثيراً للوضع الذي ساد تلك الرواية في بداياتها ؛ إذ تناقصت الثغرة الفاصلة بين التخييل العلمي الروائي والتطبيقات العلمية الميدانية بل ووصل الأمر حدّ أن رواية الخيال العلمي المعاصرة لم تعد قادرة على اللحاق بالتطبيقات الثورية التي أصبحنا نشهدها أغلب الأيام وبخاصة في ميدان الإتصالات والمعلوماتية والتطبيقات الألكترونية والهندسة النانوية المصغرة وعلم المواد المخلّقة إصطناعياً. يختزل العالم الفيزيائي (بريان غرين Brian Greene ) بطريقة رائعة الوضع الحالي عندما يكتب : « إن الإكتشافات الفيزيائية المعاصرة تدفعنا إلى إعادة تصورنا اليومي للواقع بكيفية أشد إرباكاً من أكثر الروايات العلمية تخييلاً. صحيح أن رواية الخيال العلمي يمكن أن تخلق واقعاً غريباً ولكن الاكتشافات الفيزيائية الأخيرة تفوقها إبهاراً وغرابة «.

ولكن لماذا يميل العلماء - والفيزيائيون منهم بخاصة - إلى الفن الروائي في محاولة نشر المعرفة العلمية على أوسع النطاقات الممكنة ؟ أرى أنّ الأمر يكمن في التسويغ التالي : نشهد اليوم وفي كل بقاع عالمنا إنحساراً معرفياً كبيراً - وبخاصة على صعيد المعرفة العلمية والتقنية المنظّمة - مقابل تفجر معلوماتي هائل، وتكمن المشكلة دوماً في كيفية تحويل ذلك التفجر المعلوماتي - الذي يشبه الإنفجار الكوني العظيم - إلى معرفة موجهة لتحقيق صالح الفرد والمجتمع معاً، وقد جاءت لنا الوسائط الرقمية الشائعة بنوع من القدرة السهلة والجاهزة للحصول على المعلومة إنما دون توظيفها لاحقاً في صيغة معرفة هادفة تقود إلى خبرة منتجة، وقد تفاقمت هذه الإشكالية حتى على صعيد المؤسسات التي كانت تُعتبر تقليدياً مصادر مزوّدة للمعرفة (مثل المدرسة والجامعة والصحيفة اليومية) بعد إنحسار الرغبة في القراءة الرصينة والإستعاضة عنها بالمتعة الصورية العابرة والمفتقدة لأية قيمة فلسفية، ووصل الأمر حداّ بلغ معه مرتبة المعضلة القومية في كثير من الدول بعد أن شهدت مخرجات التعليم تباطؤاً واضحاً في القدرات الجمعية ؛ فقد أصبح التفوق والإنجاز الأكاديمي وغير الأكاديمي غارقاً في الفردانية وبعيداً عن التمثلات الجمعية أكثر من ذي قبل، ووسط بيئة بهذه المواصفات بوسع الرواية أن تكون وسيطاً معرفياً مقصوداً أكثر من أي وسيط آخر لتوفير المعرفة الهادفة عبر توظيف وسائلها اللامحدودة في المناورة والقدرة على تمرير الأفكار في إطار جمالي معزز بالمتعة.

تلمست - في قراءاتي للرواية وعبر ترجماتي لحوارات كثيرة مع كُتّاب الرواية وكاتباتها - ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعل الرواية نصاً معرفياً بحدود مايمكنهم توظيفه بحسب مناشطهم المعرفية وتخوم معارفهم وطبيعة رؤيتهم الفلسفية، وسنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسايكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية وتبرز اهتماماتها وأحلامها ونمط سلوكها، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور (الحاضنة المعرفية) التي تزوّد الأجيال المسحورة بالعالم الرقمي بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة، وسيكون بوسع الروائي المتمكن (عبر مقاربة مفردات المعرفة بوسائل ناعمة وسلسة) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والرقمية المهيمنة ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه في إستخدام الطاقات الخلاقة المتاحة للعقل البشري.

أرى أنّ توصيف رواية (أليس في بلاد الكم) بكونها رواية خيال علمي ينطوي على قدر ليس بالليل من الإبتسار، وأظنّ أنّ الأصح وصفها بأنها رواية معرفية تتقنّع بإطار روائي تخييلي، ويمكن ملاحظة هذا الأمر بمعاينة المسحة الدرامية الشاخصة والجاذبة التي جاءت عناوين لفصول الكتاب : إلى داخل بلاد الكم، بنك هايزنبرغ، معهد الميكانيكا، مدرسة كوبنهاغن، أكاديمية فيرمي – بوز، الواقع الإفتراضي، ذرّاتٌ في الخواء، قلعةُ رذرفورد، حفل الجسيمات التنكّري، مدينة ألعاب الفيزياء التجريبية. يمتاز الكتاب بخصيصة متفرّدة صارت تمثّلُ واحدة من الخصائص التي تُكتبُ بها معظم المقرّرات العلمية المعتبرة : يبدأ الكاتب بالتمهيد لمفهوم أو فكرة ما، ثمّ يستزيد في شرحه وتوضيحه حتى ينتهي إلى خلاصة موجزة يضعها داخل إطار، وكأني به يريد القول هذه هي المثابات الرئيسية التي يتوجّب التركيز عليها واعتبارها نقاط شروع ممكنة لمزيد من الفهم والتعمّق في أساسيات الموضوع سعياً لبلوغ جبهاته المتقدّمة.

أليس (الكمومية) شبيهة بنظيرتها أليس التي إبتدعها الروائي لويس كارول (الذي كان ذا خبرة معمّقة بالرياضيات) ؛ لكنّ الفرق هو أن غيلمور يجعل من أليس (الكمومية) أصغرُ من حجمِ ذرَّة، وتمضي في رحلة عجائبية تجوب خلالها عوالم فريدة تكشف عن جوانب مختلفة من نظرية الكم : تُقابِلُ أليس عدداً من الشخصياتِ الإستثنائية التي تتعرَّفُ من خلالِها على مبدأ اللايقين، والدوالِّ المَوجية، ومبدأِ باولي وغيرِها من المفاهيمِ الكمومية المُحيِّرة بالمقارنة مع خبراتنا في العالم الكبير Macroworld . الكتابُ مُدعَّمٌ برسوماتٍ توضيحيةٍ من إبداعِ المؤلِّفِ نفسِه، وهذا مايمنحه ميزة إضافية تدعم ثراءه المفاهيمي.

تخرّج روبرت غيلمور عامَ ١٩٦٢م في قسمِ الفيزياءِ والرياضياتِ بمعهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وأصبحَ مُحاضِراً في المعهدِ عامَ ١٩٦٧، ثم أستاذًا مساعِدًا عامَ ١٩٧٠. إنتقلَ بعد ذلك للعملِ في جامعةِ جنوبِ فلوريدا حيث أصبحَ أستاذًا مُتفرِّغًا عامَ ١٩٧٦، وانتقلَ خلالَ العامِ نفسِه إلى جامعةِ دركسل. كتبَ غيلمور الكثيرَ من الأوراقِ البحثيةِ في مجالاتٍ عدَّة من بينها : الديناميكا اللاخَطِّية Non-Linear Dynamics ، ونظريةُ الكارثة Catastrophe Theory، والديناميكا الحرارية Thermodynamics، فضلاً عن ميكانيك الكم والفيزياء الذرية والجزيئية والشبكات الكمومية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram