TOP

جريدة المدى > عام > رمزية السلطة في رواية حبات الرمل.. حبات المطر

رمزية السلطة في رواية حبات الرمل.. حبات المطر

نشر في: 3 يوليو, 2021: 09:59 م

ناجح المعموري

صدرت حديثاً رواية الشاعر والمترجم المعروف فلاح رحيم الجديدة « حبات الرمل.... حبات المطر « وتجاوزت الستمائة صفحة.

وكان قد أصدر من قبل روايته « القنافذ في يوم ساخن « ولفتت الانتباه لإمكاناته الفنية وخبرته بالبناءات الروائية الحديثة وكيفية توظيف الثقافة والفكر والفلسفة بالسرد، وهذا أحد أهم العناصر المثيرة في روايته الأولى التي استطاعت تكريس تجربة جديدة في هذا المجال السردي.

وتأتي روايته الثانية استكمالاً سيرياً، وهذا ملمح واضح لمن قرأ الاولى وأطلع على الثانية. ولعل أبرز ما هو سيري شخصية سليم وشهاب، ومحسن، وفوزي، الاخت كريمة وأنعام مع الوالدين. وتوفرت في « حبات الرمل.... حبات المطر «مرايا كبيرة، انعكست عليها الشخوص وتفاوتت درجة الحساسية التي تمتعت بها ولهذا ارتباط بغنى الشخصية ودورها المتنوع وعلاقاتها مع بعضها البعض. وعلى الرغم من الحجم الكبير للرواية، استطاعت الامساك بالقارئ بما توفرت عليه من لغة سردية هادئة، وشفافة، ترتفع شعريتها وتتنوع المعاني الكامنة فيها، مع بروز وعي ملحوظ في التقاط رمزيات، هي في حقيقتها معروفات يومية، ومألوفة، لكن خبرة فلاح رحيم العالية والمتنوعة مكنته من اللعب على ما هو يومي والدفع به نحو فضاء الرمز لأنه قادر على وضع المفردات في سياق لغة قادرة على توفير مساحة من التفاهم. لأن اللغة ـــــ كما معروف ـــــ في قيمتها المتسامية هي رموز قادرة على تفعيل وعي الكائن، بما يساعد وعلى تقديم كشوف مساعدة على إيضاح موقفه وقناعاته واختلافاته مع الآخر، وهذا ما تسيّد بشكل واضح وجيد بين الكم الهائل من الشخوص الوافدة على مكونات السرد السيري. وعلينا تأكيد الدور الذي تنعطف اليه اللغة من كونها الفاظاً وتختار فضاء الرمزية، عميق الدلالة. لأن الالفاظ هي في المحصلة النهائية عبارة عن شبكة رمزية، تتكرس بالتداول والتواصل. وكما قال المفكر علي حرب: « أن الرموز تروي الأصول البعيدة التي تفتتح الزمان الجمعي وتردنا الى تواريخ سحيقة في قدمها لم تعد تعيها الذاكرة. ونحن لسنا في النهاية سوى هذه التواريخ التي نجرها وراءنا : تاريخ الحياة منذ دبيبها الأول. وتاريخ الانسان منذ انبجاس اللغة والفكر عند بدء الوعي. وتاريخ الجماعة التي ننتمي اليها منذ ان تشكلت ذاكرتها ووعت ذاتها كهوية ثقافية مميزة، وتاريخ الجسد الذي نحمله من ارتسام النطفة في الأحشاء. وهذه التواريخ ليست منفصلة عن بعضها البعض، بل هي تتداخل فيما بينها لكي تسهم في تشكيل ذاكرتنا ووعينا « / علي حرب / لعبة المعن / المركز الثقافي العربي / ص64.

هذا الرأي النقدي والفكري للأستاذ علي حرب يكاد يتجاور مع هذه الرواية ويتصالح معها بنسبة جيدة. وهذا يفضي بالقراءة للانتباه الى احتشاد السرديات الغفيرة بشبكة رمزيات، اضفت على الرواية نوعاً من التسامي والتعالي، خصوصاً في الوحدات السردية ذات العلاقة المباشرة مع الشائع، لان الرمزيات غادرت التقليدي الممنوحة لها من حضورها المعروف، وحيازاتها على دلالات انفتحت لها الملفوظات. وشعت بالشعرية ومن هنا ستحاول القراءة ملاحقة الرموز المعروفة والمرئية لكنها شفت عن معان اعمق واوسع.

لابتكر فلاح شخصية راهي الشائعة جداً والتي تمثل جماعات كبيرة من افراد الجيش، لكنه يفضي نحو مفهوم جمعي واسع، ومتمرد ضد السلطة، عبر مؤسستها العسكرية. والهروب من العسكرية اعلان صريح عن موقف مضاد للنظام السياسي، لاسيما وان راهي لم يكن بعثياً وهذا الموقف وحده ولد نوعاً من الاطمئنان لدى سليم واقتنع بضرورة تحريره ليلة واحدة، ليرى اهله، مثلما وفر لنفسه فرصة مماثلة لمشاهدة عائلته. وشكلت شخصية راهي محوراً مركزياً حاز ثقلاً في البناء السردي وتمكن من التحول الى جوهر سردي صالح لختم الرواية، حيث تحول الاثنان معاً الى سجينين. يد كل منهما وسط مدورة القيّد. والمشاهد لا يستطيع ان تمنح صفة لكل منهما، تداخلاً معاً وتحولاً معاً الى قوة مضادة للسلطة.

قال سليم وهو ينتهي من استكان الشاي الثاني :

ــ بالرغم من كل ما يقال عن الهاربين من الخدمة العسكرية، فأنا اعتقد ان الهرب تعبير عن تمسكهم بالحياة / ص583 // التعلق بالحياة، حب لمزاولة فعاليات متنوعة، معبرة عن الانغمار بها والهروب من العسكرية تحدًّ للموت.

منح سليم راهي حريته وان كانت مؤقته والمثير حيازته عليها وهي في حي الحرية، لكنها حرية رمزية، متخيلة ولا تكفي شاباً حالماً. اختصر سليم موقفه الفلسفي عن السلطة: نحن افراد معزولون يتحكم بنا نظام اسطوري في قدراته، واستعداده للبطش قد نفعل شيئاً نتحدى به النظام، لكن فعلنا لن يغير الحال. لتحدي الحقيقي بحاجة الى نظام منتهض مقتدر واثق من نفسه، وهذا حطمه الاوغاد لانه سمح لنفسه ان يكون جزءاً من التهم العمياء / ص597//

عاودت لعبة السلطة بارغام الاخر واخضاعه لثقافتها حاضرة بقوة ولم يكن صعباً على سليم المشغول بالفلسفة ان يدرك معاودة القيد مرة ثانية : هات يدك...

لم يمانع راهي وان احتفى صمته باعتراض اخرس. وضع سليم القيد في معصمه الايمن ثم دس معصمه هو في الحلقة الثانية وطق تعشيق القيد بصوت حاد كأنه يضع خاتمه اخيرة لفصول طويلة. قال سليم: امامنا احد احتمالين، اما ان نشترك في هذا القيد واما ان يهرب كلانا من الخدمة في الحالتين مصيرنا واحد / ص598//استطاعت قوة الرمز وحيويته توحيد سليم وراهي معاً، بمعنى لا وجود للاختلاف بين كائن واخر، لان الجميع مهيمن عليهم التي عاشتها الجماعات ملاحقة ومطاردة. لم يترك سليم فرصته في التفلسف حينما قال: تخيّل ان تجد نفسك في قيد واحد مع اخ عزيز الى نفسك / ص599//

تمكنت ارادة السلطة وخطابها من ازاحة سليم للتجاور مع راهي والتحاور معه، وصارا مشهداً واحداً لكن من ينظر لهما بذكاء يدرك بسرعة من هو المتهم، وهذا ما اعلن عنه النقيب الطيار حارث مصطفى. ورمز القيد من اكثر الرموز حضوراً وشيوعاً، لكنه في هذه الرواية صار عميقاً ومثيراً بشعريته، اقتراناً مع النظام السياسي الذي هو سليم المثقف العضوي والشاعر والسياسي الشيوعي ارتضى ان يضع يده وسط القيد، وهو الملاحق من النظام الذي لم يقوى على تحقيق هذا الحلم، وذهب هو اليه وكذلك عائلة فوزي كلها بحيث تحول القيد الى لعبة وسط العائلة وتسلية لها، واتسعت الدلالة اكثر عندما حصر تداوله وسط الجماعة الى المعنى الاعمق الذي يؤشر طواعية الجماعة واستجابتها لوضع القيد باليد، لتعبر ضمناً عن قبول كل ما ذهب اليه النظام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. إبراهيم رسول/ كاتب عراقي

    مقال نقدي جميل .. لكنه لم يفِ حق الرواية ولا الموضوع .. الاختصار في البحث لهذه الدرجة يجعل النقد مشلولاً ..

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram